للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإنه هَمُّ عزمٍ وتصميم، بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها، ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه، ومثل هذا التصميم على المعصيةِ معصيةٌ يؤاخذ بها صاحبُها؛ بدليل الحديث الثابت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي بكرة: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه"، فصرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصيةٌ أدخله الله بسببها النار (١).

المعنى الثالث: أن المراد بقوله: {وَهَمَّ بِهَا} أي: هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح؛ لأن الهم هو القصد، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به، فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعم والتمتع، ثم إنها أيضًا همت أن تبطش به إذ عصى أمرها وخالف مرادها وهي سيدته وهو عبدها، وقد استذلت له بدعوته إلى نفسها بعد أن احتالت عليه بمراودته عن نفسه وكان الهم منه امتنع عنها واستكبر على أمرها معتزًا عليها بالديانة والأمانة والترفع عن الخيانة وحفظ شرف سيده وهو سيدها. . .، وهم بها لدفع صيالها عنه وقهرها بالبعد عما أرادته {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} أي: ولكنه رأى من ربه في سريرة نفسه ما جعله يمتنع من مصاولتها واللجوء إلى الفرار منها (٢). فإن قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فائدة؟

قلنا: بل فيه أعظم الفوائد، وبيانه من وجهين:

الأول: أنه سبحانه وتعالى أَعْلَمَ يوسف أنه لو هَمَّ بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صونًا للنفس عن الهلاك.


(١) أضواء البيان (٣/ ٥٣)، وانظر أيضًا زاد الميسر لابن الجوزي (٤/ ٢٠٤)، والتفسير الكبير للرازي (١٨/ ١١٩).
(٢) تفسير الرازي (١٨/ ١١٨)، وانظر أيضًا تفسير المنار (١٢/ ٢٧٧: ٢٧٩) ومن (٢٨٠: ٢٨٦)، تفسير المراغي (١٢/ ١٣٠)، والبرهان في علم القرآن للزركشي (٣/ ١٥٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>