للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن كانوا مقرين بالصانع ولا يؤمنون بالآخرة، واتبع ملة آبائه أئمة المؤمنين الذين جعلهم الله أئمة يدعون بأمره إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فذكر ربه ثم دعاهما إلى الإيمان بربه، ثم بعد هذا عبر الرؤيا فقال: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف: ٤١]، ثم لما قضى تأويل الرؤيا: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: ٤٢]، فكيف يكون قد أنسى الشيطانُ يوسفَ ذكر ربه؟ ! وإنما أنسى الشيطانُ الناجيَ ذكرَ ربه؛ أي: الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه وهو أن يذكر عنده يوسف.

والمقصود أن يوسف - عليه السلام - لم يفعل ذنبًا ذكره الله عنه، وهو سبحانه لا يذكر من الأنبياء ذنبًا إلا ذكر استغفارًا منه، ولم يذكر عن يوسف استغفارًا من هذه الكلمة، كما لم يذكر عنه استغفارًا من مقدمات الفاحشة، فعلم أنه لم يفعل ذنبًا في هذا ولا هذا، بل همَّ همًّا تركه لله فأثيب عليه حسنة، كما قُدم بسطُ هذا في موضعه، وأما ما يكفره الابتلاء من السيئات فذلك جوزي به صاحبه بالمصائب المكفرة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا هم، ولا حزن، ولا غم، ولا أذى؛ إلا كفر الله به خطاياه" (١).

ولما أنزل الله تعالى هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: ١٢٣] قال أبو بكر: يا رسول الله، جاءت قاصمة الظهر وأيُّنا لم يعمل سوءًا؟ ! فقال: "ألست تحزن؟ ألست تنصب؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك مما تجزون به" (٢).

فتبين أن قوله: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي: نسي الفتى ذكر ربه؛ أن يذكر هذا لربه، ونسي ذكرَ يوسفَ ربه، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، ويوسف قد ذكر ربه ونسي الفتى ذكر ربه، وأنساه الشيطان أن يذكر ربه هذا الذكر الخاص، فإنه وإن كان يسقي ربه خمرًا فقد لا يخطر هذا الذكر بقلبه، وأنساه الشيطان تذكر ربه وإذكار ربه لما قال: {


(١) أخرجه البخاري (٥٦٤١)، مسلم (٢٥٧٣).
(٢) أخرجه الترمذي (٣٠٣٩)، وعبد بن حميد في مسنده (١/ ٣٦)، مسند أبي يعلى (١/ ٢٩) (٣٠/ ٢١)، وغيرهم كثير بسند ضعيف، لكن الحديث صحيح بشواهده، وانظر (عجالة الراغب المتمني ١/ ٤٤٦: ٤٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>