للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عِنْدَ رَبِّكَ}، فلما نسى أن يتوكل على ربه جوزي بلبثه في السجن بضع سنين؟

فيقال: ليس في قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ما يناقض التوكل بل قد قال يوسف: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} كما أن قول أبيه: {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: ٦٧] لم يناقض توكله، بل قال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف ٦٧].

وأيضًا فيوسف - عليه السلام - قد شهد الله له أنه من عباده المخلصين، والمخلص لا يكون مخلصًا مع توكله على غير الله، فإن ذلك شرك، ويوسف لم يكن مشركًا لا في عبادته ولا توكله، بل قد توكل على ربه في فعل نفسه بقوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: ٣٣]، فكيف لا يتوكل عليه في أفعال عباده؟

وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} مثل قوله لربه - أي: ملك مصر -: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: ٥٥]، فلما سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هذا مناقضًا للتوكل، ولا هو من سؤال الإمارة المنهي عنه، فكيف يكون قوله للفتى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} مناقضًا للتوكل وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به ليعلم حاله ليتبين الحق، ويوسف كان من أثبث الناس، ولهذا بعد أن طُلِبَ: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: ٥٠]، فيوسف يذكر ربه في هذه الحال كما ذكره في تلك ويقول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} فلم يكن في قوله له: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ترك الواجب ولا فعل المحرم حتى يعاقبه الله على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين، وكان القوم قد عزموا على حبسه إلى حين قبل هذا ظلمًا له مع علمهم ببراءته من الذنب؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)} [يوسف: ٣٥]، ولبثه في السجن كان

<<  <  ج: ص:  >  >>