كرامة من الله في حقه ليتم بذلك صبره وتقواه، فإنه بالصبر والتقوى نال ما نال، ولهذا قال:{قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: ٩٠]، ولو أنه لم يصبرْ ويتقِ بل أطاعهم فيما طلبوا منه جزعًا من السجن لم يحصل له هذا الصبر والتقوى، وفاته الأفضل باتفاق الناس.
وجاء في مؤتمر تفسير سورة يوسف: ونسيان الفتى الناجي ذكر يوسف للملك وأسبابه هذا ولم يكن إلا مسافة الطريق، حتى أنسى الشيطانُ الساقيَ أن يذكر يوسف للملك بدليل قوله:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}، فإن الإدكار إنما يكون بعد النسيان، هذا هو الصواب، ولا يجوز لأحد أن يقول غيره إلا أن يكون قد اعتزل العقل والذوق؛ بحيث هو لا يعرفهما وهما لا يعرفانه، وإنما نسي الساقي ذكر يوسف للملك لوسوسة الشيطان إليه بما شغله عن ذكره له حتى ذهب عنه، وزال عن قلبه ذكره. فقربه من الملك أنساه بوعده السابق، وقصر الملك أنساه السجن، وأيام السعادة أنسته أيام الشقاء، وأصحابه في البلاط أنسوه صاحبه في حبسه، وحالة السعة والعز جعلته ينسى حالة الضيق والذل، وبعبارة أخرى فرحه بالولائم التي كانت تقام له بعد خروجه وبأهله وذويه، وحصوله على منزلته الأولى عند الملك أصبح شغله الشاغل، هذه هي الوسائط التي استعملها الشيطان حتى غفل الساقي عن يوسف، ولكون هذه الأشياء وما إليها هي آلات للشيطان نسب الإنساء إليه، ولو أن يوسف - عليه السلام - استقبل من أمره ما استدبر لما كان قدم للساقي رجاءه ولكن لا يعلم الغيب إلا الله - عز وجل -.
وهذا النوع من النسيان معهود وليس ببدع ولا مستبعد، بل هو كثير في تاريخ الأصدقاء، فكأيٍّ مَنْ يصحبك حال شدته وضيقه وينساك يوم الرخاء والفرج، بل كثيرًا ما ينسى الناس خالقهم في أيام الرغد والرخاء، فلا عجب من أن ينسى الساقي المصري (يوسف العبراني) العبد السجين، وكثيرًا من الأولاد لا يذكرون أتعاب والدتهم عليهم في صغرهم، والأصدقاء ينسون أصدقاءهم متى أسندت لعدتهم عمالة ما، كما أن كثيرًا من الأصحاب الفقراء إذا اغتنوا