للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه بأن هذا من الوقائع العجيبة التي تتوافر الدواعي على نقلها، فلو وجدت لنقلت بالتواتر ولو كان ذلك لعرفه النصارى، لا سيما وهم من أشد الناس بحثًا عن أحواله وأشد الناس غلوًا فيه، حتى زعموا كونه إلهًا، ولا شك أن الكلام في الطفولية من المناقب العظيمة والفضائل التامة، فلما لم تعرفه النصارى مع شدة الحب وكمال البحث عن أحواله علمنا أنه لم يوجد، ولأن اليهود أظهروا عداوته حال ما أظهر ادعاء النبوة فلو أنه - عليه السلام - تكلم في زمان الطفولية وادعى الرسالة لكانت عداوتهم معه أشد ولكان قصدهم قتله أعظم فحيث لم يحصل شيء من ذلك علمنا أنه ما تكلم، أما المسلمون فقد احتجوا من جهة العقل على أنه تكلم، فإنه لولا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا إقامة الحد على الزنا عليها، ففي تركهم لذلك دلالة على أنه - عليه السلام - تكلم في المهد، وأجابوا عن الشبهة الأولى بأنه: ربما كان الحاضرون عند كلامه قليلين، فلذلك لم يشتهر. وعن الثاني: لعل اليهود ما حضروا هناك وما سمعوا كلامه فلذلك لم يشتغلوا بقصد قتله) (١).

وقد قال الرازي قبل هذا: أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة (من أنكر كلامه في المهد). قالوا: إن كلام عيسى - عليه السلام - في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم من الفاحشة، وكان الحاضرون جمعًا قليلين، فالسامعون لذلك الكلام كان جمعًا قليلًا، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء، وبتقدير: أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت، فهم أيضًا قد سكتوا لهذه العلة، فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتومًا مخفيًا إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وأيضًا فليس كل النصارى ينكرون ذلك، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب: لما قرأ على النجاشي سورة مريم، قال النجاشي: لا تفاوت بين واقعة عيسى، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة (٢).

فأنت تلحظ من كلامه - أي: الرازي - أنه مجرد حاكٍ لكلام اليهود والنصارى وليس مقرًا له بدليل قوله: (أما المسلمون فقد احتجوا من جهة العقل على أنه تكلم فإنه لولا كلامه الذي. .) فوضح الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقًا.

* * *


(١) الرازي في التفسير (٢١/ ٢١٣: ٢١٦).
(٢) الرازي في التفسير (٨/ ٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>