الثامنة: لو سعى داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
أما الاحتمال الثاني - على تقدير حدوثه -: وهو أن تحمل هذه القصة على وجه يوجب حصول الصغيرة ولا يوجب حصول الكبيرة، فنقول في كيفية هذه القصة على هذا التقدير وجوه: الأول: أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود فآثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
الثاني: قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب ألبتة، أما وقوع بصره عليها من غير قصد فذلك ليس بذنب، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضًا ذنبًا لأن هذا الميل ليس في وسعه، فلا يكون مكلفًا به بل لما اتفق أن قتل زوجها لم يتأذ تأذيًا عظيمًا بسبب قتله لأجل أنه طمع أن يتزوج بتلك المرأة فحصلت الزلة بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل.
والثالث: أنه كان أهل زمان داود - عليه السلام - يسأل بعضهم بعضًا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها وكانت عادتهم في هذا المعنى مألوفة معروفة، أو أن الأنصار كانوا يساوون المهاجرين بهذا المعنى، فاتفق أن عين داود - عليه السلام - وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان، فقيل له: هذا وإن كان جائزًا في ظاهر الشريعة، إلا أنه لا يليق بك، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود - عليه السلام - إلا ترك الأفضل والأولى.
فأما جعله نائبًا وخليفة لنفسه فذلك البتة مما لا يليق، وثانيها: أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف، فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثم قال بعده:{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} أشعر هذا بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة؛ ومعلوم أن هذا فاسد، أما لو ذكر تلك القصة على وجوه تدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدة مصابرته على طاعة الله تعالى فحينئذٍ يناسب أن يذكر عقيبه {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}[ص: ٢٦] فثبت أن هذا الذي نختاره أولى.