للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما كان ذلك كله أمرًا رائعًا للعقول، هازًا للقلوب، مزعجًا للنفوس، وكان ربما توقف فيه الجلف الجافي، أكد أمره وزاد في تهويله، وأطنب في تفخيمه وتبجيله، إشارة إلى أن هوله يفوت الوصف بقوله، معلمًا أنه مما يحق له أن يستفهم عنه سائقًا له بأداة الاستفهام مرادًا بها التعظيم للشأن، وأن الخبر ليس كالعيان {مَا الْحَاقَّةُ (٢)} فأداة الاستفهام: مبتدأ أخبر عنه بالحاقة، وهما خبر عن الأولى، والرابط تكرير المبتدأ بلفظه، نحو: زيد أي ما هو؟ وأكثر ما يكون ذلك إذا أريد معنى التعظيم والتهويل.

ولما كان السياق لترجمة المراد بكشف الساق، عظم التهويل بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} وأي في الزمن الماضي، وقصره لتذهب النفس فيه كل مذهب، أي: وأي شيء أعلمك بشيء من الأشياء، مع تعاطيك للبحث والمداورة، ثم زاد التحذير منها بقوله على النهج الأول مستفهمًا، والمراد به التفخيم ومزيد التعظيم: {مَا الْحَاقَّةُ} وأي: إنها بحيث لا يعلم كنهها أحد، ولا يدركها، ولا يبلغها درايته، وكيف ما قدرت حالها، فهي أعظم من ذلك، فلا تعلم حق العلم إلا بالعيان (١).

وقال البغوي: سُمّيت حاقة لأنَّها حقت فلا كاذبة لها، وقيل: لأن فيها حواق الأمور وحقائقها؛ ولأن فيها يحق الجزاء على الأعمال - أي: يجب -، يقال: حق عليه الشيء؛ إذا وجب يحق حقوقًا، قال الله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: ٧١]، وقوله: {مَا الْحَاقَّةُ} هذا استفهام معناه التفخيم لشأنها كما يقال: زيد ما زيد، على التعظيم لشأنه، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣)} أي أنك لا تعلمها؛ إذ لم تعاينها ولم تر ما فيها من الأهوال (٢).

وقال الشوكاني: قوله: فالقيامة حاقة؛ لأنَّها تحاق كل محاق في دين الله بالباطل، وتخصم كل مخاصم، وقال في الصحاح: حاقه أي: خاصمه في صغار الأشياء، ويقال: ماله فيها حقّ، ولا حقاق، ولا خصومة، والتحاقّ: التخاصم، والحاقة والحقة والحقّ ثلاث لغات بمعنى. قال الواحدي: هي القيامة في قول كل المفسرين، وسميت بذلك لأنَّها ذات


(١) نظم الدرر للبقاعي (٨/ ١٢٠، ١١٩)، تفسير ابن كثير (٤/ ٥٤٨).
(٢) تفسير البغوي (٤/ ٢٨٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>