وبعد فما ينكر من أن يكون في الذباب سم وشفاء؛ إذا نحن تركنا طريق الديانة ورجعنا إلى الفلسفة، وهل الذباب في ذلك إلا بمنزلة الحية؟ فإن الأطباء يذكرون أن لحمها شفاء من سمها، إذا عمل منه الترياق الأكبر، ونافع من لدغ العقارب، وعض الكلاب، والحمى الربع، والفالج، واللقوة، والارتعاش، والصرع، وكذلك قالوا في العقرب: إنها إذا شق بطنها ثم شدت على موضع اللسعة؛ نفعت وإذا أحرقت فصارت رمادًا ثم سقي منها من به الحصاة نفعته، وربما لسعت المفلوج فأفاق، وتلقى في الدهن حينًا فيكون ذلك الدهن مفرقًا للأورام الغليظة، والأطباء القدماء يزعمون أن الذباب إذا ألقي في الإثمد وسحق معه ثم اكتحل به؛ زاد ذلك في نور البصر، وشد مراكز الشعر من الأجفان في حافات الجفون، وحكوا عن صاحب المنطق؛ أن قومًا من الأمم كانوا يأكلون الذباب فلا يرمدون، وقالوا في الذباب: إذا شدخ ووضع على موضع لسعة العقرب سكن الوجع، وقالوا: من عضه الكلب احتاج إلى أن يستر وجهه من سقوط الذباب عليه لئلا هذا يقتله وهذا يدل على طبيعة فيه شفاء أو سم. (١)
وقال ابن القيم: الحديث فيه أمران: أمر فقهي، وأمر طبي. فأما الفقهي: فهو دليل ظاهر الدلالة جدًّا على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع فإنه لا ينجسه؛ وهذا قول جمهور العلماء، ولا يُعرف في السلف مخالف في ذلك، ووجه الاستدلال به أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بمقله؛ وهو غمسه في الطعام، ومعلوم أنه يموت من ذلك، ولا سيما إذا كان الطعام حارًا، فلو كان ينجسه لكان أمرًا بإفساد الطعام، وهو -صلى الله عليه وسلم- إنما أمر بإصلاحه، ثم عدي هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة، والزنبور، والعنكبوت، وأشباه ذلك؛ إذ الحكم يعم بعموم علته، وينتفي لانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقودًا فيما لا دم له سائل؛ انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته.
ثم قال: من لم يحكم بنجاسة عظم الميتة؛ إذا كان هذا ثابتًا في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرطوبات، والفضلات، وعدم الصلابة، فثبوته في العظم الذي هو أبعد عن