للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ؛ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيقُولُ انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ انْصَرِفْ رَاشِدًا فَوَالله مَا كُنْتَ جَهُولًا (١).

وقد قال في هذا الحديث الذي معنا: "حتَّى يعبدَ الله وحدَه لا شريكَ لهُ"، وهذا هو المقصود الأعظم من بعثته - صلى الله عليه وسلم -، بل من بعثة الرسل من قبله كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)} (الأنبياء: ٢٥)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل ٣٦)، بل هذا هو المقصود من خلق الخلق وإيجادهم كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} (الذاريات: ٥٦) فما خلقهم إلا ليأمرهم بعبادته، وأخذ عليهم العهد لما استخرجهم من صلب آدم - عليه السلام - على ذلك كما قال تعالى: {أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}. (الأعراف: ١٧٢)، وقد تكاثرت الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة في تفسير الآية أنه تعالى استنطقهم حينئذ، فأقروا كلهم بوحدانيته، وأشهدهم على أنفسهم، وأشهد عليهم أباهم آدم والملائكة.

وبعث الله - عز وجل - الرسل تجدد ذلك العهد الأول، وتدعوا إلى تجديد الإقرار بالوحدانية، ولقد بعث الله نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحنفية المحضة، والتوحيد الخالص، دين إبراهيم - عليه السلام -، وأمره أن يدعو الخلق كلهم إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فكان يدعو الناس سرًّا إلى ذلك نحوًا من ثلاث سنين، فاستجاب له طائفة من الناس، ثم أمر بإعلان الدعوة وإظهارها، وقيل له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: ٩٤).

فدعا إلى الله جهرًا، وأعلن الدعوة، وذم الآلهة التي تُعبد من دون الله، فثار عليه المشركون، واجتهدوا في إيذائه، وفي إطفاء نور الله الذي بعثه به، وهو لا يزداد إلا إعلانًا بالدعوة، وتصميمًا على إظهارها، وإشهارها والنداء بها في مجامع الناس، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد


(١) مسند أحمد (٢/ ٢١٨)، صحيح ابن حبان (٦٥٦٧)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية (١/ ١٤٩: ١٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>