للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال: فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسبرها على أسلوبها المتقدم بالعقد والقول والفعل.

أما العقد منها فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع.

وذكر حديث رافع بن خديج قَالَ: قَدِمَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - المُدِينَةَ وَهُمْ يَأبْرونَ النَّخْلَ يَقُولُونَ: يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: "مَا تَصْنَعُونَ؟ . قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: "لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا". فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَر إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ رَأْىٍ فَإِنَّما أنا بَشَرٌ". (١)

وفي حديث عائشة وأنس قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ". (٢)

وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها.

وقد قال الله تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث تمر المدينة فاستشار الأنصار فلما أخبروه برأيهم رجع عنه، فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بها والنبي - صلى الله عليه وسلم - مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملآن الجوانح بعلوم الشريعة مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة وقد تواتر بالنقل عنه - صلى الله عليه وسلم - من المعرفة بأمور الدنيا ودقائق مصالحها وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر.

وأما ما يعتقده في أمور أحكام البشر الجارية على يديه وقضاياهم ومعرفة المحق من المبطل وعلم المصلح من المفسد فبهذه السبيل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ


(١) مسلم (٢٣٦٢).
(٢) مسلم (٢٣٦٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>