والثالث: أن الجهود لم يقنعوا بإنكار هذا الشرف لإسماعيل -عليه السَّلام-، بل أفى خلوا في التوراة أن إبراهيم -عليه السلام- أخرجه عن بيته مع أمه، وأنها كانت أمة لسارة -عليها السلام-، ومعاذ الله أن تكون كذلك، وقد عاد وبال هذا الافتراء عليهم من غير مهلة، ثم ضربت عليهم الذلة والعبودية، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في تفسير سورة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ... }.
وبالجملة فكان الفخر بالآباء قد سيط من دمهم، ولذلك وبخهم يحيى -عليه السلام- بقوله:(يَا أَوْلادَ الأَفاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟ ٨ فَاصْنَعُوا أَثمارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. ولا تَبْتَدِئُوا تَقُولُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْرَاهِيمُ أبا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذ الحجَارَةِ أَوْلادًا لإِبْرَاهِيمَ.٩ وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ)(متى ٣/ ١٠: ٧).
فلو أسمعهم القرآن شيئًا مما كان للعرب من كرم المحتد وعلوه لاهتاجوا إلى ذكر ما افتروه من كون هاجر -عليها السلام- أم أبيهم إسماعيل -عليه السلام- أمة لسارة -عليها السلام-، ألا ترى أن القرآن مع كثرة ذكر سارة -عليها السلام- لم يأت ولو مرة واحدة بذكر هاجر -عليها السلام-؟ فكان الأولى أن يجتنب التصريح بكون هذه الفضيلة لبني إسماعيل خاصة. وبالجملة فعدم التصريح باسم الذبيح أولى بكونه دليلًا على أنه إسماعيل -عليه السلام-، فإن لم يصرح باسمه، فقد دل عليه بوجوه كثيرة كما مر آنفًا.
الرابع: أن التوراة التي بأيدي اليهود مشتملة على دلائل جمة تنطق بأن إسماعيل هو الذبيح، وهو أبوه وهو صاحب البركة الدائمة التي بورك بها جميع الأمم، مع فضائل أخر. ولا خفاء في عداوتهم به وبذريته. وإذ كان الأمر كذلك، كان أحسن أن يُكتفى بتلك البينات التي في التوراة عند أعدائهم عن التصريح بها في القرآن فإنه كما قيل: الفضل ما شهدت به الأعداء، لا سيما إذا كانت هذه الشهادة على رغم أنفهم وسعيهم في كتمانها، ولا يخفى أن القرآن ملآن بذكر فضائل أنبياء بني إسرائيل- عليهم السلام-، بل هو الذي نفى عنهم كل ما أدخلوه في التوراة مما لا يليق برفيع منزلتهم، فلو كانت فضيلة الذبيح