فالأول يقول: يا رب، لو أعلم لك دينًا خيرًا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه، ولكني لا أعرف سوى ما أنا عليه، ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي.
والثاني: راضٍ بما هو عليه لا يؤْثِر غيره، ولا تطلب نفسه سواه، ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما - الأول والثاني - عاجز، ولكن الثاني لا يلحق بالأول لما بينهما من الفرق.
فالأول كمن طلب الدين في الفترة ولم يظفر به، فعدل بعد استفراغ الوسع في طلبه عجزًا وجهلًا، والثاني كمن لم يطلبه بل مات على شركه، وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض؛ فتأمل هذا الموضع، والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق.
هذا في أحكام الثواب والعقاب، والتعيين موكول إلي علم الله وحكمه، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية علي ظاهر الأمر، فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة، وهو مبني على أربعة أصول:
الأصل الأول: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥)} (الإسراء: ١٥)، وهذا كثير في القرآن، يخبر أنه إنما يعذب مَنْ جاءه الرسول، وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذي يعترف بذنبه، قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)} (الزخرف: ٧٦)، والظالم من عرف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو تمكن من معرفته بوجه، وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعجز عن ذلك، فكيف يقال إنه ظالم؟ !
الأصل الثاني: أن العذاب يُستَحق بسببين:
أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها، والعمل بها، وبموجبها.