وَمِنْهَا: أَنّ هَذِهِ الْهُدْنَةَ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ؛ فَإِنّ النّاسَ أَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاخْتَلَطَ المُسْلِمُونَ بِالْكُفّارِ وَبَادَءُوهُمْ بِالدّعْوَةِ وَأَسْمَعُوهُمْ الْقُرْآنَ وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جَهْرَةً آمِنِينَ وَظَهَرَ مَنْ كَانَ مُخْتَفِيًا بِالْإِسْلَامِ وَدَخَلَ فِيهِ فِي مُدّةَ الْهُدْنَةِ مَنْ شَاءَ الله أَنْ يَدْخُلَ وَلِهَذَا سَمّاهُ الله فَتْحًا مُبِينًا.
قَالَ ابْنُ قتيْبَةَ: قَضَيْنَا لَك قَضَاءً عَظِيمًا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَا قَضَى الله لَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنّ الْفَتْحَ - فِي اللّغَةِ - فَتْحُ المُغْلَقِ وَالصّلْحُ الّذِي حَصَلَ مَعَ المُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مَسْدُودًا مُغْلَقًا حَتّى فَتَحَهُ الله، وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ فَتْحِهِ صَدّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأَصْحَابِهِ عَنْ الْبَيْتِ وَكَانَ فِي الصّورَةِ الظّاهِرَةِ ضَيْمًا وَهَضْمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَفي الْبَاطِنِ عِزّا وَفَتْحًا وَنَصْرًا وَكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينْظُرُ إلَى مَا وَرَاةُ مِنْ الْفَتْحِ الْعَظِيمِ وَالْعِزّ وَالنّصْرِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقيقٍ.
فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى تِلْكَ الشّرُوطِ دُخُولَ وَاثِقٍ بِنَصْرِ الله لَهُ وَتَأْيِيدِهِ وَأَنّ الْعَاقِبَةَ لَهُ وَأَنّ تِلْكَ الشّرُوطَ وَاحْتِمَالَهَا هُوَ عَيْنُ النّصْرَةِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الجنْدِ الّذِي أَقَامَهُ المُشْتَرِطُونَ وَنَصَبُوهُ لِحَرْبِهِمْ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ؛ فَذَلّوا مِنْ حَيْثُ طَلَبُوا الْعِزّ وَقُهِرُوا مِنْ حَيْثُ أَظْهَرُوا الْقُدْرَةَ وَالْفَخْرَ وَالْغَلَبَةَ، وَعَزّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ انْكَسَرُو الله وَاحْتَمَلُوا الضّيْمَ لَهُ، وَفِيهِ فَدَارَ الدّوْرُ وَانْعَكَسَ الْأَمْرُ وَانْقَلَبَ الْعِزّ بِالْبَاطِلِ ذُلّا بِحَقّ، وَانْقَلَبَتْ الْكَسْرَةُ لله عِزّا بِالله، وَظَهَرَتْ حِكْمَةُ الله وَآيَاتُهُ وَتَصْدِيقُ وَعْدِهِ وَنُصْرَةُ رَسُولِهِ عَلَى أَتَمّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا، الّتِي لَا اقْتِرَاحَ لِلْعُقُولِ وَرَاءَهَا.
وَمِنْهَا: مَا سَبّبَهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِيِنَ مِنْ زَيادَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ وَالانْقِيَادِ عَلَى مَا أَحَبّوا وَكَرِهُوا، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الرّضَي بِقَضَاءِ الله وَتَصْدِيقِ مَوْعُودِهِ، وَانْتِظَارِ مَا وُعِدُوا بِهِ، وَشُهُودِ مِنّةِ الله وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالسّكِينَةِ الّتِي أَنْزَلَهَا فِي قُلُوبِهِمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ، الّتِي تُزَعْزَعُ لَهَا الْجِبَالُ، فَأَنْزَلَ الله عَلَيْهِمْ مِنْ سَكِينَتِهِ مَا اطْمَأَنّتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ، وَقَوِيَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ، وَازْدَادُوا بِهِ إيمَانًا. وَمِنْهَا: أَنّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ هَذَا الْحُكْمَ الّذِي حَكَمَ بِهِ لِرَسُولِهِ وَللْمُؤْمِنِينَ سَبَبًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ المُغْفِرَةِ لِرَسُولِهِ، مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّرَ وَلإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، وَلهِدَايَتِهِ الصّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، وَنَصْرِهِ النّصْرَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute