للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالظّفَرَ وَالْغَنَائِمَ وَالْهِدَايَةَ؛ فَجَعَلَهُمْ مَهْدِيّينَ مَنْصُورِينَ غَانِمِينَ، ثُمّ وَعَدَهُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً وَفُتُوحًا أُخْرَى لَمْ يَكُوُنوا ذَلِكَ الْوَقْتَ قَادِرِينَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ هِيَ مَكّةُ، وَقِيلَ هِيَ فَارِسُ وَالرّومُ، وَقِيلَ الْفُتُوحُ الّتِي بَعْدَ خَيْبَرَ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبهَا؛ ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ الْكُفّارَ لَوْ قَاتَلُوا أَوْليَاءَهُ لَوَلّى الْكُفّارُ الْأَدْبَارَ غَيْرَ مَنْصُورِينَ، وَأَنّ هَذِهِ سُنّتُهُ فِي عِبَادِهِ قَبْلَهُمْ وَلَا تَبْدِيلَ لِسُنّتِهِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَاتَلُوهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُوَلّوا الْأَدْبَارَ؟ قِيلَ هَذَا وَعْدٌ مُعَلّقٌ بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ فِي غَيْرِ هَذَا الموْضِعِ: وَهُوَ الصّبْرُ وَالتّقْوَى، وَفَاتَ هَذَا الشّرْطُ يَوْمَ أُحُدٍ بِفَشَلِهِمْ المُنَافِي لِلصّبْرِ وَتَنَازُعِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ المُنَافِي لِلتّقْوَى، فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ الْوَعْدُ لانْتِفَاءِ شَرْطِهِ. ثُمّ ذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - أَنّهُ هُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَ المُؤْمِنِينَ بِهِمْ لمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الحكَمِ الْبَالِغَةِ.

ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ صَدَقَ رَسُولَهُ رُؤْيَاهُ فِي دُخُولهِمْ المسْجِدَ آمِنِينَ وَأَنَّهُ سَيَكُونُ وَلَا بُدّ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ آنَ وَقْتُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعَامِ، وَالله سُبْحَانَهُ عَلِمَ مِنْ مَصْلَحَةِ تَأْخِيرِهِ إلَى وَقْتِهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ، فَأَنْتُمْ أَحْبَبْتُمْ اسْتِعْجَالَ ذَلِكَ وَالرّبّ تَعَالَى يَعْلَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ التّأْخِيرِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوهُ فَقَدّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا تَوْطِئَةً لَهُ وَتَمْهِيدًا. ثُمّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنّهُ هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ، فَقَدْ تَكَفّلَ الله لِهَذَا الْأَمْرِ بِالتّمَامِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى جَمِيعِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَفِي هَذَا تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمْ وَبِشَارَةٌ لَهُمْ وَتَثْبِيتٌ، وَأَنْ يَكُونُوا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ الّذِي لَا بُدّ أَنْ يُنْجِزَهُ فَلَا تَظُنّوا أَنّ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِغْمَاضِ وَالْقَهْرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ نُصْرَةً لِعَدُوةِ، وَلَا تَخَلّيًا عَنْ رَسُولِهِ وَدِينِهِ، كَيْفَ وَقَدْ أَرْسَلَهُ بِدِينِهِ الْحَقّ وَوَعْدِهِ أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى كُلّ دِينٍ سِوَاهُ؟ . (١)


(١) زاد المعاد لابن القيم ٣/ ٢٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>