للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذلك يدل على الذنب، فهذه جملة وجوهٍ تمسك القوم بهذه الآية.

والجواب عن الوجه الذي ذكروه أولًا: أن قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} يدل على أنه كان الأسر مشروعًا، ولكن بشرط سبق الإثخان في الأرض، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد، ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقًا عظيمًا، وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس. ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة، والآية تدل على أن بعد الإثخان يجوز الأسر فصارت هذه الآية دالةً دلالةً بيِّنةً على أن ذلك الأسر كان جائزًا بحكم هذه الآية، فكيف يمكن التمسك بهذه الآية في أن ذلك الأسر كان ذنبًا ومعصيةً؟ ويتأكد هذا الكلام بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: ٤).

فإن قالوا: فعلى ما شرحتموه دلت الآية على أن ذلك الأسر كان جائزًا والإتيان بالجائز المشروع لا يليق ترتيب العقاب عليه، فلم ذكر الله بعده ما يدل على العقاب؟

فنقول: الوجه فيه أن الإثخان في الأرض ليس مضبوطًا بضابطٍ معلومٍ معينٍ، بل المقصود منه إكثار القتل بحيث يوجب وقوع الرعب في قلوب الكافرين، وأن لا يجترئوا على محاربة المؤمنين، وبلوغ القتل إلى هذا الحد المعين لا شك أنه يكون مفوضًا إلى الاجتهاد، فلعله غلب على ظن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك القدر من القتل الذي تقدم كفى في حصول هذا المقصود، مع أنه ما كان الأمر كذلك فكان هذا خطًا واقعًا في الاجتهاد في صورة ليس فيها نص، وحسنات الأبرار سيئات المقربين. فحسن ترتيب العقاب على ذكر هذا الكلام لهذا السبب، مع أن ذلك لا يكون البتة ذنبًا ولا معصيةً.

والجواب عن الوجه الذي ذكروه ثانيا أن نقول:

إن ظاهر قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} أن هذا الخطاب إنما كان مع الصحابة لإجماع المسلمين على أنه - صلى الله عليه وسلم - ما كان مأمورًا أن يباشر قتل الكفار بنفسه، وإذا كان هذا الخطاب مختصًا بالصحابة، فهم لما تركوا القتل وأقدموا على الأسر، كان الذنب صادرًا

<<  <  ج: ص:  >  >>