وأن يحصل أعظم المصلحتين بترك أخفهما إذا تعين عدم إحداهما، وأعني أن ذلك في الجملة لا أنه عام مطلقًا حيث كان ووجد. (١)
وبيان هذه القاعدة: هو أن هذه الشريعة خير كلها ومصالح كلها وعدل كلها، فلم تدع خيرًا إلا دلت عليه ولا شرًّا إلا حذرت منه، وقد جاءت بأصلين عظيمين هما: تقرير المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرًا إلا دلنا عليه ولا شرًّا إلا حذرنا منه، فلا تجد فعلًا أو قولًا فيه مصلحة إلا والشريعة قد أمرت به أمر إيجاب أو استحباب، ولا فعلًا أو قولًا فيه مفسدة إلا والشريعة قد نهت عنه إما نهي تحريم أو كراهة؛ فالواجب إذا هو فعل المصالح كلها، واجتناب المفاسد كلها، بحيث لا يقر الإنسان على ترك مصلحة ولا فعل مفسدة، لكن هذا عند عدم تعارض المصالح والمفاسد، لكن لو قدرنا تعارض مصلحتين؛ بحيث يؤدي فعلنا لأحدهما تفويت الأخرى، أو تعارض مفسدتين بحيث يؤدي ترك أحدهما إلى فعل الأخرى؛ ففي هذه الحالة نكون ملزمين بترك إحدى المصلحتين، وبالوقوع في إحدى المفسدتين؛ فأي المصالح يقدم، وأي المفاسد يجتنب؟ هذا هو ما تجيب عليه هاتان القاعدتان، فالأولى: في تعارض المفاسد. والثانية: في تعارض المصالح.
فأما الأولى: فتقضي قضاء جازمًا بأنه عند تعارض المفاسد، فإنه ينظر فيهما، هل هما متساويتان في المفسدة؟ أو أن إحداهما أشد مفسدة من الأخرى؟ فإن كانت هذه المفاسد متساوية؛ فإن الإنسان يخير بترك أحدهما، إذ لا مرجح لإحداهما على الأخرى، أما إذا كانت إحداهما أشد مفسدة من الأخرى؛ فإن الواجب هو اجتناب المفسدة الأشد بارتكاب المفسدة الأخف.
وأما الثانية: فكذلك إذا تعارضت مصلحتان، فإن الواجب حينئذ هو النظر بينهما، هل هما متساويتان في المصلحة، أو أن إحداهما أعظم مصلحة من الأخرى؛ فإن كانتا متساويتين في المصلحة؛ فإن الإنسان يخير بفعل إحداهما، إذ لا مرجح لإحداهما على