للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجزالته وحباهم الله تعالى بلُغة واسعة واضحة مستبينة هي التي قال الله عنها: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)}، وكانوا يتبارون في الميادين العامة كأسواق مجنة وعكاظ، ونبغ منهم أقوامٌ في قرض الشعر؛ حتى جعلوا لأشعارهم القداسة فعلقوها على الكعبة.

ولقد كانت الأمة العربية على عهد نزول القرآن، تتمتع بخصائص العروبة الكاملة التي فيها قوة الذاكرة وسرعة الحفظ وسيلان الأذهان، وكان العربي يحفظ مئات الآلاف من الأشعار، ويعرف الأحساب والأنساب فيستظهرها عن ظهر قلب، ويعرف التواريخ، وقلَّ أن تجد منهم من لا يعد لك الحسب والنسب، أو من لا يحفظ (المعلقات العشر) على كثرة أشعارها وصعوبة حفظها (١).

ومع ذلك كانوا - أعني: العربَ - أمة أُمية لا تقرأ ولا تكتب ويفشو فيهم الجهل، ولا ينقض ذلك أنهم بلغاء الكلام، فهم يعبرون باللفظ الفصيح عن ما يجري في البادية حولهم، كما لا ينقض أميتهم أن كان منهم أفراد على علم بأحوال الأمم من حولهم وعلى معرفة القراءة والكتابة، وكانت العرب تفشو بينهم أخلاق مرذولة من البغاء وأكل الأموال بالباطل، ثم كان بينهم الشرك الأكبر فعبدوا الحجارة والأصنام من دون الله تعالى.

ثم بعث الله فيهم رسولًا منهم يعرفونه ويعرفون ما عليه من جميل الأخلاق وكريمها، فكانت معجزته الباقية أبد الآبدين هي من كلام، وهو كلام الله رب العالمين، فهو ليس معجزة مادية كناقة صالح عليه السَّلام، أو عصا موسى عليه السَّلام، فتنتهي المعجزة بموته، إنما كانت معجزته - صلى الله عليه وسلم - كلامًا لرب العالمين يحتوي على العلم والإيمان والتشريع الذي سيبقى إلى يوم الدين، وليس بأن يبقى إلى وفاة الرسول الذي نزل عليه هذا القرآن العظيم، وهذا ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِن الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ الله إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ


(١) التبيان في علوم القرآن للصابوني (٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>