للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا - أن يكون من تلقاء نفسي، أم هذا دليل قاطع أنه تنزيل من حكيم حميد؟ .

فلو أعملتم أفكاركم وعقولكم، وتدبرتم حالي وحال هذا الكتاب، لجزمتم جزمًا لا يقبل الريب بصدقه، وأنه الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، ولكن إذ أبيتم إلا التكذيب والعناد، فأنتم لا شك أنكم ظالمون، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [يونس: ١٧]؟ .

فلو كنت متقولًا لكنت أظلم الناس، وفاتني الفلاح، ولم تخف عليكم حالي، ولكني جئتكم بآيات الله، فكذبتم بها، فتعين فيكم الظلم (١).

وقال ابن عاشور: فتقديره هنا: لو شاء الله ما تلوته لكنني تلوته عليكم. وتلاوته هي دليل الرسالة لأن تلاوته تتضمن إعجازه علميًا إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم والحكمة، وبلاغيًا إذ جاء كلامًا أعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم وتفاوت مراتبهم، وليس من شأن أحد من الخلق أن يكون فائقًا على جميعهم، ولا من شأن كلامه أن لا يستطيع مثلَه أحد منهم.

ولذلك فُرعت على الاستدلال جملةُ: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} تذكيرًا لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الأمية، أي قد كنت بين ظهرانيكم مدة طويلة، وهي أربعون سنة، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة تشبه حالة العظمةِ، والكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحَى الله إليه بالرسالة، ولا بلاغة قول واشتهارًا بمقاولة أهل البلاغة والخطابة والشعر تشبه بلاغة القول الذي نطق به عن وحي القرآن، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالًا معتادًا وكانت بلاغة الكلام الذي جاء به كذلك لكان له من المقدمات من حين نشأته ما هو تهيئة لهذه الغاية وكان التخلق بذلك


(١) تفسير السعدي (١/ ٣٦٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>