هذه الشبهة البغيضة إنما تطعن في جانب رحمته بالخلق عامة؛ وبأعدائه خاصة؛ وإنني إذا أردت الحديث عن رحمته - صلى الله عليه وسلم - لا تكفيني هذه الوريقات؛ وإنما هي إشارات وأمارات أدلل بها على سعة رحمته بكل العوالم في الكون الفسيح؛ وصدق ربب إذ يقول:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: ١٠٧].
وإنني إذا أردتُّ الحديث عن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، أرى كأنني أقف أمام بحر لا ساحل له، ينتابني ما ينتاب فقيرًا خيّم الجوع على أحشائه؛ وقد دُعي إلى مأدبة ملك، لا يدري من أين يبدأ! ! ولعلي أبدأ بحاله - صلى الله عليه وسلم - في معاملة الحيوان (البهائم التي لا تعقل)، ثم أعرج على بيان حال معاملته مع أعدائه؛ لأدلل بالأولى على الثانية؛ لاسيما إذا كان هؤلاء الأعداء ممن يدخلون تحت قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (٧٠)} [الإسراء: ٧٠] فهم داخلون في عموم التكريم دون خصوصه! فعجبًا لأهل الكفر الذين يطعنون في دين الإسلام، بدعوى أنه انتهك حقوق الإنسان، أما قرأ أولئك عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الحيوان؛ لتستبين لهم حرمة الإنسان في دين الإسلام؟ ! فها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن اتخاذ شيء فيه الروحُ غرضًا يُرمى؛ أفينهى عن ذلك في الحيوان؛ ويرضاه في الإنسان؛ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥)} [الكهف: ٥].
فقد مَرَّ عبد الله بْنُ عُمَرَ - رضي الله عنه - بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ، فَلَمّا رَأَوْا ابْنَ عُمَر تفَرَّقُوا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ لَعَنْ الله مَنْ فَعَلَ هَذَا، إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. (١)
الله أكبر أيلعن فاعل ذلك في طير؛ ويأمر به في امرأة تربط بين جملين وتفسخ نصفين! بل نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يحولَ أحدٌ بين حيوانٍ أو طيرٍ وبين ولده، ونهى عن حرق كل ذي روح.