للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير أَنَّ عُيَيْنَةَ اِسْتَأْذَنَ فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا. وقَالَ الْخَطَّابِيُّ: جَمَعَ هَذَا الْحَدِيث عِلْمًا وَأَدَبًا، وَلَيْسَ فِي قَوْل النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فِي أُمَّته بِالْأُمُورِ الَّتِي يُسَمِّيهِمْ بِهَا وَيُضِيفهَا إِلَيْهِمْ مِنْ المُكْرُوه غِيبَة، وَإِنَّمَا يَكُون ذَلِكَ مِنْ بَعْضهمْ فِي بَعْض، بَلْ الْوَاجِب عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّن ذَلِكَ وَيُفْصِح بِهِ وَيُعَرِّف النَّاس أَمْره، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَاب النَّصِيحَة وَالشَّفَقَة عَلَى الْأُمَّة، وَلَكِنَّهُ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْكَرَم وَأُعْطِيه مِنْ حُسْن الْخُلُق أَظْهَرَ لَهُ الْبَشَاشَة وَلَمْ يُجِبْهُ بِالمُكْرُوهِ لِتَقْتَدِي بِهِ أُمَّته فِي اِتِّقَاء شَرِّ مَنْ هَذَا سَبِيله، وَفي مُدَارَاته لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرّه وَغَائِلَته.

قُلْت: وَظَاهِر كَلَامه أَنْ يَكُون هَذَا مِنْ جُمْلَة الْخَصَائِص، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلّ مَنْ اِطَّلَعَ مِنْ حَال شَخْص عَلَى شَيْء وَخَشِيَ أَنَّ غَيْره يَغْتَرّ بِجَمِيلِ ظَاهِره فَيَقَع فِي مَحْذُور مَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُطْلِعهُ عَلَى مَا يَحْذَر مِنْ ذَلِكَ قَاصِدًا نَصِيحَته، وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِن أَنْ يَخْتَصّ بِهِ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَكْشِف لَهُ عَنْ حَال مَنْ يَغْتَرّ بِشَخْصٍ مِنْ غَيْر أَنْ يُطْلِعهُ المُغْتَرّ عَلَى حَاله فَيذَمّ الشَّخْص بِحَضْرَتِهِ لِيَتَجَنَّبهُ المُغْتَرّ لِيَكُونَ نَصِيحَة، بِخِلَافِ غَيْر النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّ جَوَاز ذَمّه لِلشَّخْصِ يَتَوَقَّف عَلَى تحَقُّق الْأَمْر بِالْقَوْلِ أَوْ الْفِعْل مِمَّنْ يُرِيد نُصْحه.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: فِي الحدِيث جَوَاز غِيبَة المُعْلِن بِالْفِسْقِ أَوْ الْفُحْش وَنَحْو ذَلِكَ مِنْ الْجَوْر فِي الْحُكْم وَالدُّعَاء إِلى الْبِدْعَة مَعَ جَوَاز مدَارَاتهمْ اِتِّقَاء شَرّهمْ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى المُدَاهَنَة فِي دِين الله تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ تَبَعًا لِعِيَاضٍ: وَالْفَرْق بَيْنَ المُدَارَاة وَالمُدَاهَنَة أَنَّ المُدَارَاة بَذْل الدُّنْيَا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا أَوْ الدِّين أَوْ هُمَا مَعًا، وَهِيَ مُبَاحَة، وَرُبَّمَا اُسْتُحِبَّتْ، وَالمُدَاهَنَة تَرْك الدِّين لِصَلَاحِ الدُّنْيَا، وَالنَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا بَذَلَ لَهُ مِنْ دُنْيَاهُ حُسْن عِشْرَته وَالرِّفْق في مُكَالمَته وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَمْدَحهُ بِقَوْلٍ فَلَمْ يُنَاقِض قَوْله فِيهِ فِعْله، فَإِنَّ قَوْله فِيهِ قَوْل حَقٌّ، وَفِعْله مَعَهُ حُسْن عَشْرَة، فَيَزُول مَعَ هَذَا التَّقْرِير الْإِشْكَال بِحَمْدِ الله تَعَالَى.

الوجه الخامس: قال الحافظ ابن حجر: وَقَدْ نُوزَعَ فِي كَوْن مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ غِيبَة، وَإِنَّمَا هُوَ نَصِيحَة لِيَحْذَر السَّامِع، وَإِنَّمَا لَمْ يُوَاجِه الْمَقُول فِيهِ بِذَلِكَ لِحُسْنِ خُلُقه -صلى الله عليه وسلم-، وَلَوْ وَاجَهَ الْمَقُول فِيهِ بِذَلِكَ لَكَانَ حَسَنًا، وَلَكِنْ حَصَلَ الْقَصْد بِدُونِ مُوَاجَهَة. وَالجوَاب أَنَّ المُرَاد أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>