الأخير -لبعد عهدهم من النبوة والأنبياء وانحصارهم في شبه جزيرتهم وشدة تمسكهم بدين الآباء وتقاليد أمتهم- بانحطاط ديني شديد ووثنية سخيفة قلما يوجد لها نظير في الأمم المعاصرة، وأدواء خلقية واجتماعية جعلت منهم أمة منحطة الأخلاق، فاسدة المجتمع متضعضعة الكيان حاوية لأسوأ خصائص الحياة الجاهلية وبعيدة عن محاسن الأديان.
كان الشرك هو دين العرب العام والعقيدة السائدة، كانوا يعتقدون في الله أنه إله أعظم خالق الأكوان ومدبر السماوات والأرض، بيده ملكوت كل شيء فلئن سئلوا: من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. ولكن ما كانت حوصلة فكرهم الجاهلي تسع توحيد الأنبياء في خلوصه وصفائه وسموه، وما كانت أذهانهم البعيدة العهد بالرسالة والنبوة والمفاهيم الدينية تسيغ أن دعاء أحد من البشر يتطرق إلى السموات العلى ويحظي عند الله بالقبول مباشرة بغير واسطة وشفاعة، قياسًا على هذا العالم القاصر وعاداته، وأوضاع الملوكية الفاسدة، ومجاري الأمور فيها، فبحثوا لهم عن وسطاء توسلوا بهم إلى الله وأشركوهم في الدعاء، وقاموا نحوهم ببعض العبادات ورسخت في أذهانهم فكرة الشفاعة حتى تحولت إلى عقيدة قدرة الشفعاء على النفع والضرر. ثم ترقوا في الشرك فاتخذوا من دون الله آلهة، واعتقدوا أن لهم مماثلة ومشاركة في تدبير الكون، وقدرة ذاتية على النفع والضرر والخير والشر والإعطاء والمنع، فإذا كانوا الأولون يعترفون لله بالألوهية والربوبية الكبرى، ويكتفون بالشفعاء والأولياء كان الآخرون يشركون آلهتهم مع الله ويعتقدون فيهم قدرة ذاتية على الخير والشر والنفع والضر والإيجاد والإفناء مع معنى غير واضح عن الله كإله أعظم ورب الأرباب. (١)
وانتشر في جزيرة العرب عبادة الأصنام بأبشع أشكالها، فكان لكل قبيلة أو ناحية أو مدينة صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي.
قال الكلبي: كان لأهل كل دار من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم
(١) بيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن، للأستاذ محمد عزت دروزة.