للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأهوائهم، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء، وقد كفروا بسيدهم، وأفضلهم، وخاتمهم، وأكملهم؛ ولهذا قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعد ما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، فلما استقامت جزيرة العرب أمر اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهز رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، فَأَوْعَبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفًا، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة، ومن حولها من المنافقين، وغيرهم، وكان ذلك في عام جَدْب ووقت قَيْظ وحر، وخرج -صلى اللَّه عليه وسلم- يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنزل بها، وأقام على مائها قريبًا من عشرين يومًا، ثم استخار اللَّه في الرجوع، فرجع عامه ذلك لضيق الحال، وضعف الناس، وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} أي: إن لم يسلموا {عَنْ يَدٍ} أي: عن قهر لهم وغلبة {وَهُمْ صَاغِرُونَ}: ذليلون حقيرون مهانون (١).

وقال القرطبي: أمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لاتفاقهم على هذا الوصف، وخص أهل الكتاب بالذكر إكرامًا لكتابهم، ولكونهم عالمين بالتوحيد، والرسل، والشرائع، والملل، وخصوصًا ذكر محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وملته، وأمته. فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية؛ وهي إعطاء الجزية بدلًا عن القتل؛ وهو الصحيح (٢).

قال ابن العربي: سمعت أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها. فقال: {قَاتِلُوا} وذلك أمر بالعقوبة، ثم قال: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وذلك بيان للذنب


(١) تفسير ابن كثير ٢/ ٤٥٦.
(٢) تفسير القرطبي (٨/ ١٠١).

<<  <  ج: ص:  >  >>