الذي أوجب العقوبة، وقوله:{وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد، ثم قال:{وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} زيادة للذنب في مخالفة الأعمال، ثم قال:{وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف، والمعاندة، والأنفة عن الاستسلام، ثم قال:{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} تأكيدًا للحجة؛ لأنهم كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم التوراة والإنجيل، ثم قال:{عَنْ يَدٍ} فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة، وعين البدل الذي ترتفع به، والذي دلَّ عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين؛ لأنه تعالى قال:{قَاتِلُوا الَّذِينَ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} فيقتضي ذلك وجوبها على مَنْ يقاتل، ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلًا؛ لأنه لا مال له، ولأنه تعالى قال:{حَتَّى يُعْطُوا} ولا يقال: لمن لا يملك حتى يعطي.
وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء، والذرية، والعبيد، والمجانين المغلوبين على عقولهم، والشيخ الفاني، واختلف في الرهبان، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم، قال مطرف، وابن الماجشون: هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه، وقال أيضًا: إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم، ولا تجارتهم، ولا زروعهم إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها، وصولحوا عليها (١).
وقال الشافعي: قال اللَّه تبارك وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (٢٩)} (التوبة: ٢٩) قال: فكان بينا في الآية، واللَّه تعالى أعلم أن الذين فرض اللَّه -عزَّ وجلَّ- قتالهم حتى يعطوا الجزية الذين قامت عليهم الحجة
(١) تفسير القرطبي (٨/ ١٠١)، وانظر المغني (١٢/ ٧٧٦).