وهذه الآية تصف أهل الكتاب هؤلاء بأنهم {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، وسواء كان المقصود بكلمة {رَسُولُهُ} هو رسولهم الذي أرسل إليهم، أو هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فالفحوى واحدة، ذلك أن الآيات التالية فسرت هذا بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، وأكل أموال الناس بالباطل محرم في كل رسالة، وعلى يد كل رسول، وأقرب النماذج لأكل أموال الناس بالباطل هو المعاملات الربوية، وهو ما يأخذه رجال الكنيسة مقابل (صك الغفران)؛ وهو الصد عن دين اللَّه، والوقوف في وجهه بالقوة، وفتنة المؤمنين عن دينهم، وهو تعبيد العباد لغير اللَّه، وإخضاعهم لأحكام وشرائع لم ينزلها اللَّه؛ فهذا كله ينطبق عليه:{وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، وهذا كله قائم في أهل الكتاب كما كان قائمًا يوم ذاك.
كذلك تصفهم الآية بأنهم {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} وهذا واضح مما سبق بيانه. فليس بدين الحق أي اعتقاد بربوبية أحد مع اللَّه، كما أنه ليس بدين الحق التعامل بشريعة غير شريعة اللَّه، وتلقي الأحكام من غير اللَّه، والدينونة لسلطان غير سلطان اللَّه، وهذا كله قائم في أهل الكتاب كما كان قائمًا فيهم يوم ذاك.
والشرط الذي يشترطه النص للكف عن قتالهم ليس أن يسلموا {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ولكن أن يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فما حكمة هذا الشرط؟ ولماذا كانت هذه هي الغاية التي ينتهي عندها القتال؟
إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين اللَّه اعتقادًا وسلوكًا، كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج اللَّه، ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم -وفق ما تصوره هذه الآيات- كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم وعدم إمكان التعايش بين المنهجين؛ وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين اللَّه فعلًا، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية (وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضًا).