للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ترامى به إلى الهلاك والعطب. ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر وأخف من ألم المرض الباقي، وبهذا يتبين لك أن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح اللَّه بها مرض القلوب، وهي من رحمة اللَّه بعباده ورأفته بهم الدخلة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)} (الأنبياء: ١٠٧). فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير؛ إذ هو في ذلك جاهل أحمق كما يفعله بعض النساء والرجال الجهال بمرضاهم وبمن يربونه من أولادهم وغلمانهم وغيرهم في ترك تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير رأفة بهم، فيكون ذلك سبب فسادهم وعداوتهم وهلاكهم. (١)

وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)} (البقرة: ١٧٩) أي: في شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه سيقتل انكف عن صنيعه؛ فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة (القتل أنفى للقتل)، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}.

قال أبو العالية: جعل اللَّه القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. . .، {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: يا أولي العقول والأفهام والنهي لعلكم تنزجرون وتتركون محارم اللَّه ومآثمه، والتقوى: اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات. (٢).

وفي هذا المعنى يقول الشافعي: والقصاص حيث شرع إنما شرع صيانة للدماء في أهبها وحفظًا للنفوس في نصبها، وردعًا للغواة وزجرًا للجناة، وحقنًا للدماء عن أصحاب الحكمة الكلية والمصلحة الجلية، قال تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} معناه: أن الرجل إذا


(١) الفتاوى (١٥/ ٢٨٩ - ٢٩٠).
(٢) ابن كثير (١/ ٢٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>