للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لذلك يقول شيخ الإِسلام: إن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل اللَّه فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من اللَّه لعباده، فيكون الوالي شديدًا في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين اللَّه فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات لا شفاء غيظه وإرادة العلو على الخلق، بمنزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحًا لحاله مع أنه يود ويؤثر ألا يحوجه إلى تأديب، وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم (١)، وقطع العروق بالفصاد (٢)، ونحو ذلك، بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة فهكذا شرعت الحدود (٣).

والحدود حينما تصبح تشريعًا نافذًا يلتزم به الأفراد ويطبقه المجتمع ويصبح من المعلوم بداهة أن من قَتل قُتل، وأن من زنا جلد أو رجم، وأن من قذف حد، وأن من شرب خمرًا جلد فيها، وأن من حارب قتل أو صلب. . . . إلخ، وأن من بدل دينه وفارق الجماعة فقد حكم على نفسه بالموت، حينما يصبح الأمر كذلك، ويوقن أفراد من سائر هؤلاء، وتسد عليهم منافذ التفلت من الحد بالشفاعة أو المحسوبية أو بوضعهم فوق متناول التطبيق، فقد أقام المجتمع سورًا منيعًا لا يفكر في اقتحامه إلا صنف من البشر شاذ التكوين أو شاذ الدوافع (٤).

وفي ظل الحدود ينعم الناس بالأمن الشامل على ما تتقوم به الحياة المثلى، وفي ظل الحدود يتفيأ الناس ظلال حرية شاملة يتحررون فيها من قيود الهوى في داخلهم، ومن عوامل الخوف تأتي من خارجهم، ماذا يبقى من جوهر الحياة بعد الأمن الشامل والحرية الشاملة؟ .


(١) الحجم: مص الدم.
(٢) الفصاد: شق العرق.
(٣) السياسة الشرعية (١٠٦)، والفتاوى (٢٨/ ٣٢٩ - ٣٣٠).
(٤) مباحث في علوم التفسير محمد حسين الذهبي (٤٦٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>