للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال القرطبي: فالجواب أن هذا خرج مخرج التحذير بالقليل عن الكثير، كما جاء في معرض الترغيب بالقليل مجرى الكثير في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من بني للَّه مسجدًّا ولو مثل مفحص قطاة بني اللَّه له بيتًا في الجنة". (١) وقيل: إن ذلك مجاز من وجه آخر، وذلك أنه إذا ضرى بسرقة القليل سرق الكثير فقطعت يده. وأحسن من هذا ما قاله الأعمش وذكره البخاري (٢) في آخر الحديث كالتفسير قال: كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي دراهم. (٣)

وقال بعضهم: البيضة في اللغة تستعمل في المبالغة في الذم، فمن الأول قولهم فلان بيضة البلد إذا كان فردًا في العظمة وكذا في الاحتقار، ومنه قول أخت عمرو بن عبدُ وُدّ لما قتل علي أخاها يوم الخندق في مرثيتها له:

لكن قاتله من لا يعاب له ... من كان يدعى قديمًا بيضة البلد

ومن الثاني قول الآخر يهجو قومًا:

تأبى قضاعة أن تبدي لكم نسبًا ... وابنًا تزار فأنتم بيضة البلد

ويقال في المدح أيضًا: بيضة القوم أي وسطهم وبيضة السنام أي شحمته، فلما كانت البيضة تستعمل في كل من الأمرين حسن التمثيل بها كأنه قال يسرق الجليل والحقير فيقطع فرب أنه عذر بالجليل فلا عذر له بالحقير، وأما الحبل فأكثر ما يستعمل في التحقير كقولهم: ما ترك فلان عقالًا ولا ذهب من فلان عقال، فكأن المراد أنه إذا اعتاد السرقة لم يتمالك مع غلبة العادة التمييز بين الجليل والحقير وأيضًا فالعار الذي يلزمه بالقطع لا يساوي ما حصل له ولو كان جليلاً، وإلى هذا أشار القاضي عبد الوهاب بقوله:


(١) أخرجه ابن ماجه (٧٣٨)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (٦٠٣).
(٢) أخرجه البخاري (٦٧٨٣).
(٣) القرطبي (٦/ ١٦٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>