للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَلَكِنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِينَ سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رَخَّصَ في النَّبِيذِ؛ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ: فَظَنُّوا أَنَّهُ السُّكْرُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ النَّبِيذُ الَّذِي شَرِبَهُ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- والصَّحَابَةُ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْبِذُونَ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ في الْمَاءِ حَتَّى يَحْلُوَ فَيَشْرُبهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وَثَانِيَ يَوْمٍ، وَثَالِثَ يَوْمٍ؛ وَلَا يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ؛ لِئَلَّا تَكُونَ الشِّدَّةُ قَدْ بَدَتْ فِيهِ، وَإِذَا اشْتَدَّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُشْرَبْ (١).

قال ابن حجر العسقلاني: وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ رَسُول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شَرِبَ مُسْكِرًا فَقَدْ دَخَلَ في أَمْر عَظِيم وَبَاء بِإِثْمٍ كَبِير، وَإِنَّمَا الَّذِي شَرِبَهُ كَانَ حُلوًا وَلَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا. وَقَدْ رَوَى ثُمَامَة بْن حَزْن الْقُشَيْرِيُّ أَنهُ سَأَل عَائِشَة عَنْ النَّبِيذ فَدَعَتْ جَارِيَة حَبَشِيَّة فَقَالَتْ: سَلْ هَذِهِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تَنْبِذ لِرَسُولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَقَالَتْ الْحَبَشِيَّة: كُنْت أَنْبِذ لَهُ في سِقَاء مِنْ اللَّيْل وَأُوكِيهِ وَأُعَلِّقهُ فَإِذَا أَصْبَحَ شَرِبَ مِنْهُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِم. وَرَوَى الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَنْ أُمّه عَنْ عَائِشَة نَحْوه ثُمَّ قَالَ: فَقِيَاس النَّبِيذ عَلَى الْخَمْر بِعِلَّةِ الْإِسْكَار وَالاضْطِرَاب مِنْ أَجَلّ الْأَقْيِسَة وَأَوْضَحهَا، وَالمَفَاسِد الَّتِي تُوجَد في الْخَمْر تُوجَد فِي النَّبِيذ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عِلَّة الْإِسْكَار في الْخَمْر لِكَوْنِ قَلِيله يَدْعُو إِلَى كَثِيره مَوْجُودَة في النَّبِيذ، لِأَنَّ السُّكْر مَطْلُوب عَلَى الْعُمُوم، وَالنَّبِيذ عِنْدهمْ عِنْد عَدَم الْخَمْر يَقُوم مَقَام الْخَمْر لِأَنَّ حُصُول الْفَرَح وَالطَّرَب مَوْجُود في كُلّ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ في النَّبِيذ غِلَظ وَكُدْرَة وَفِي الْخَمْر رِقَّة وَصَفَاء لَكِنْ الطَّبْع يَحْتَمِل ذَلِكَ في النَّبِيذ لِحُصُولِ السُّكْر كَمَا تُحْتَمَل المَرَارَة في الْخَمْر لِطَلَبِ السُّكْر، قَالَ: وَعَلَى الجُمْلَة فَالنُّصُوص المُصَرِّحَة بِتَحْرِيمِ كُلّ مُسْكِر قَلَّ أَوْ كَثُرَ مُغْنِيَة عَنْ الْقِيَاس وَاللَّه أَعْلَم. وَقَدْ قَالَ عَبْد اللَّه بْن المُبَارَك: لَا يَصِحّ في حِلّ النَّبِيذ الَّذِي يُسْكِر كَثِيره عَنْ الصَّحَابَة شَيْء وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ، إِلَّا عَنْ إِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ، قَالَ: وَقَدْ ثَبَتَ حَدِيث عَائِشَة "كُلّ شَرَاب أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَام" (٢).


(١) مجموع فتاوى ابن تيمية (٩/ ١٥٦).
(٢) فتح الباري (١٠/ ٥٨ - ٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>