الكتاب وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به وإنما أراد أن الإخبار عن قرب اللَّه تعالى من المحسنين كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم.
فهو مسلك سابع في الآية وهو المختار وهو من أليق ما قيل فيها، وإن شئت قلت قربه تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضًا قريب منهم، وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق، وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد، وهو قربة تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها، فكان في العدول عن قريبة إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا باللَّه تعالى. (١)
وبعد هذا العرض الذي ربما طال بعض الشيء لإحاطة القارئ بما حول الآية؛ فلا يخفى ما في تذكير (قريب) مع أنها تعود -ظاهرًا- على مؤنث (رحمت) من روعة في النظم، إذ هناك فرق بين قرب المكان وقرب النسب (الصاهرة)، وهذا من لطيف الفروق العربيّة في استعمال المشترك إزالةً للإبهام بقدر الإمكان.
وكذلك تغليب قرب اللَّه -عز وجل- على قرب رحمته، فقربه -عز وجل- قرب لرحمته.
والإيجاز الذي في الاكتفاء بخبر واحد عن اللَّه -عز وجل- وصفته (رحمت)؛ فالصفة لا تفارق موصوفها.
* * *
(١) فليراجع كلام ابن القيم في بدائع الفوائد ٣/ ٥٤٠ ففيه فوائد بديعة.