بعد الصدمة الأولى أفاق شيئًا فلم يجد النفس معه فبنى الكلام على الغيبة، وفي الثالث: على ما سبق، أو: نبه في الأول على أنها حين لم تثبت ولم تتبصر غاظه ذلك فأقامها مقام المستحق للعتاب؛ فخاطبها على سبيل التوبيخ والتعبير بذلك، وفي الثاني: على أن الحاملَ على الخطاب والعتاب لمَّا كان هو الغيظُ والغضبُ وسكتَ عنه الغضبُ بالعتابِ الأولِ - وَلَّى عنها الوجهَ وهو يدمدم قائلًا: وبات وباتت له، وفي الثالث: على ما سبق.
وقد سَمَّى السكاكيُّ هذا الالتفاتَ الأسلوبَ الحكيمَ؛ وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيهًا على أنه الأولى بالقصد، أو السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيهًا على أنه الأولى بحاله أو المهم له. (١)
ويمكن أن نحصر فوائد الالتفات في ما يلي:
الفائدة الأولى: فَنِّيَّةُ التَّنْوِيعِ في العبارة المثير لانتباه المتلَقِّي، والباعث لنشاطه في استقبال ما يوجَّه له من كلام، والإِصغاءِ إليه، والتفكير فيه.
الفائدة الثانية: الاقتصادُ والإِيجازُ في التعبير.
الفائدة الثالثة: الإِعراض عن المخاطبين؛ لأنهم عن البيانات معرضون أو مُدْبرون وغير مكترثين.
الفائدة الرابعة: إفادة معنًى تتضمَّنُه العبارة التي حصل الالتفات إليها، وهذا المعنى لا يستفادُ إذا جرَى القول وفق مقتضى الظاهر.
الفائدة الخامسة: ما يُسْتفاد من معنًى بالالتفات؛ إنّما يستفاد إلماحًا بطريقٍ غير مباشر، ومعلُومٌ أنّ الطُّرقَ غير المباشرة تكون أكثر تأثيرًا من الطرق المباشرة حينما تقتضي أحوال المتلقّين ذلك.
الفائدة السادسة: إشعارُ مختلف زُمر المقصودين بالكلام بأنّهم محلُّ اهتمام المتكلّم، ولو
(١) الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني ص ٧٢ وما بعدها. وينظر كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري ص ٣٩٢.