للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (النساء: ٢٣)، فدلّ على أن تحريم الأمهات من الرضاعة كحرمتهم من النسب، قال المهايمي: لأن الرَّضاعَ جزءٌ، منها وقد صار جزءًا من الرضيع، فصار كأنه جزؤها فأشبهت أصلَه (١)، ولعل الذي جعل المرضعة جزءًا من الرضيع هو الإرضاع؛ لأنه رضع منها فكان بعض بدنه جُزْءًا مِنْهُا، ولأَنَّهُ تَكَوَّنَ مِنْ لَبَنِهَا فَصَارَتْ فِي هَذَا كَأُمِّهِ الَّتِي وَلَدَتْهُ، وَصَارَ أَوْلَادُهَا إِخْوَةً لَهُ؛ لِأَنَّ لِتَكْوِينِ أَبْدَانِهِمْ أَصْلًا وَاحِدًا هُوَ ذَلِكَ اللَّبَنُ (٢).

فإن التي أرضعت تشبه الأم من حيث إنها سبب اجتماع أمشاج بنيته وقيام هيكله، غير أن الأم جمعت خلقته في بطنها، وهذه درَّتْ عليه سد رَمقِه في أول نشأته، فهي أمٌّ بعد الأم وأولادها إخوةٌ بعد الإخوة، وقد قاست في حضانته ما قاست، وقد ثبت في ذمته من حقوقها ما ثبت، وقد رأت في صغره ما رأت، فيكون تملكها والوثوب عليها ما تمجه الفطرة السليمة، وكم من بهيمةٍ عجماءَ لا تلتفت إلى أمها أو مرضعتها هذه اللفتة، فما ظنك بالرجال؟ وأيضًا فإن العرب كانوا يسترضعون أولادهم في حيٍّ من الأحياء، فيشبّ فيهم الوليد، ويخالطهم كمخالطة المحارم، ويكون عندهم للرضاعة لُحمةٌ كلُحمةِ النسب، فوجب أن يُحملَ على النسب (٣).

فيحدث التحريم بالرضاع بسبب تكون أجزاء البنية الإنسانية من اللبن، فلبن المرأة يُنْبِتُ لحم الرضيع، ويُنْشِزُ عظمه؛ أي يُكَبِّرُ حجمَه، كما جاء في الحديث: "لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَرَ الْعَظْمَ" (٤).

فإن إنشاز العظم وإنبات اللحم، إنما يكون لمن كان غذاؤه اللبن، وبه تصبح المرضع


(١) محاسن التأويل للقاسمي (النساء: ٢٣ - ٨٦: ٥).
(٢) انظر تفسير المنار (٤/ ٤٦٩)، وتفسير آيات الأحكام للصابوني (١/ ٤٦٢).
(٣) حجة اللَّه البالغة (٢/ ٢٠٣).
(٤) مسند أحمد (١/ ٤٣٢) وله شواهد يصح بها.

<<  <  ج: ص:  >  >>