للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمًّا للرضيع؛ لأنه جزءٌ منها حقيقةً (١).

فاللَّبَنُ يَخْرُجُ مِنْ دَمِ المُرْضِعِ وَيَمْتَصُّهُ الوَلَدُ فَيَكُونُ دَمًا لَهُ يَنْمُو بِهِ اللَّحْمُ، وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ، فَهُوَ يَشْرَبُ مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَقَدْ لُوحِظَ أَنَّ مَنْ يَرْضَعُ مِنْ لَبَنِ الْأَتَانِ يَغْلُظُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ لَبَنُ كُلِّ حَيَوَانٍ يُؤَثِّرُ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَلَكِنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ نَفْسِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ أَكْثَرُ مِمَّا هِيَ بَدَنِيَّةٌ، فَجِسْمُهُ مُسَخَّرٌ لِشُعُورِهِ وَعَقْلِهِ؛ لِذَلِكَ كَانَ تَأْثِيرُ الِانْفِعَالَاتِ، وَالصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ مِنَ المُرْضِعِ فِي الرَّضِيعِ أَشَدَّ مِنْ تَأْثِيرِ الصِّفَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَقَدْ لَاحَظْنَا أَنَّ صَوْتَ المُرْضِعِ قَدْ ظَهَرَ فِي الْوَلَدِ الَّذِي كَانَتْ تُرْضِعُهُ، فَكَيْفَ بِآثَارِ عَقْلِهَا، وَشُعُورِهَا، وَمَلَكَاتِهَا النَّفْسِيَّة؟ . (٢)

والمرضع إذا أكلت الحلال كان اللبن أنفع للصبي، وأقرب إلى صلاحه قالوا: العادة جاريةٌ أن من ارتضع امرأًة؛ فالغالب عليه أخلاقها من خيرٍ وشرٍ، ولذا قيل: إنه ترضعه امرأةٌ صالحةٌ كريمةُ الأصل؛ فإن لبن المرأة الحمقاء يسري، وأثر حمقها يظهر يومًا ما، وفي الحديث: (الرضاع يغير الطباع) (٣)، ومن ثمة لما دخل الشيخ أبي محمد الجويني بيته ووجد ابنه الإمام أبا المعالي يرتضع ثدي غير أمه اختطفه منها ثم نكس رأسه ومسح بطنه وأدخل أصبعه في فِيه ولم يزل يفعل ذلك حتى خرج ذلك اللبن قائلًا: يسهل عليّ موته ولا تفسد طباعه بشرب لبن غير أمه، ثم لما كبر الإمام كان إذا حصلت له كبوة في المناظرة يقول هذه من بقايا تلك الرضعة (٤).

فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ المُبَالَغَةِ فِي الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَةِ الْأَطْفَال مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ، وَقَابِلْهُ بِتَهَاوُنِ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي أَمْرِ الْوِلْدَانِ فِي رَضَاعَتِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْأُمَّهَاتِ اللَّوَاتِي فَطَرَهُنَّ اللَّه


(١) انظر: الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ (٧/ ١٤١).
(٢) تفسير المنار (٢/ ٤١٦ - ٤١٧).
(٣) مسند الشهاب القضاعي (٣٥)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع (٣١٥٦).
(٤) تفسير روح البيان (البقرة: ٢٣٣، ١/ ٣٠٠)، وانظر: تفسير المنار (٢/ ٤١٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>