رفع صوت فالظاهر أنه ليس بحيث يسمع من مسيرة خمسمائة عام، وعلى تقدير أن يكون بهذه الحيثية فكرة الهواء تنقطع عند كرة النار ولا يسمع صوت بدون هواء؟
وأجيب بأن الاستراق من ملائكة العنان وهم يتحدثون فيما بينهم بما أمروا به من السماء من الحوادث الكونية، و {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ}(الجن: ٨) طلبنا خبرها أو من الملائكة النازلين من السماء بالأمر فإن ملائكة على أبواب السماء ومن حيث ينزلون يسألونهم بماذا تذهبون؟ فيخبرنهم، وليس الاستراق من الملائكة الذين على محدب السماء.
وأمر كرة النار لا يصح، والهواء غير منقطع وهو كلما رق ولطف كان أعون على السماع، على أن وجود الهواء مما لا يتوقف عليه السماع على أصول الأشاعرة، ومثله عدم البعد المفرط، وظاهر خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة أن الاستراق من الملائكة في السماء قال:"إذا قضى اللَّه تعالى أمرًا تكلم تبارك وتعالى فتخر الملائكة كلهم سجدًا فتحسب الجن أن أمرًا يقضي فتسترق، فإذا عن قلوب الملائكة -عليهم السلام- ورفعوا رؤوسهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا جميعًا: الحق وهو العلي الكبير". وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر؛ عن إبراهيم التيمي: "إذا أراد ذو العرش أمرًا سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال من شاء اللَّه: الحق وهو العلي الكبير.
ولعله بعد هذا الوجه يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة -عليهم السلام-، وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة -عليهم السلام- أيضًا أن الاستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء، ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه، وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك على الأصول الأشعرية، ويمكن أن يُدَّعَى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف، وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للأفلاك! ليس عدم الحجب أغرب منها.