وأيًّا ما كان لا يقال: إن الشياطين ذوو فطنة؛ فكيف يعقل منهم العود إلى استراق السمع مرة بعد مرة مع أن المسترق يهلك أو يتأذى الأذى الشديد واستمرار انقضاض الشهب دليل استمرار هذا الفعل منهم؛ لأنا نقول: لا نلزم استمرار هذا الفعل منهم، واستمرار الانقضاض ليس دليلًا عليه؛ لأن الانقضاض يكون للاستراق ويكون لغيره، فقد أشرنا فيما سبق أن الهواء قد يتكيف بكيفية مخصوصه فيحترق بسبب أشعة الكواكب وإن لم يكن هناك مسترق، وقيل: يجوز أن ترى الشهب لتعارض في الأهوية واصطكاك يحصل منه ما ترى كما يحصل البرق باصطكاك السحاب على ما روي عن بعض السلف وحوادث الجولا يعلمها إلا اللَّه تعالى، فيجوز أن يكونوا قد استرقوا أو، فشاهدوا ما شاهدوا فتركوا واستمرت الشهب تحدث لما ذكر لا لاستراق الشياطين، ويجوز أن يقع أحيانًا ممن حدث منهم ولم يعلم بما جرى على رؤوس المسترقين قبله، أو ممن لا يبالى بالأذى ولا بالموت حبًا لأن يقال: ما أجسره أو ما أشجعه مثلًا كما يشاهد في كثير من الناس يقدمون في المعارك على ما يتيقنون هلاكهم به حبًا لثل ذلك، ولعل في وصف الشياطين بالمارد ما يستأنس به لهذا الاحتمال، وأما ما قيل: إن الشهاب قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسًا فخلاف المأثور، فقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عن أن عباس -رضي اللَّه عنهم- قال: إذا رمي بالشهاب لم يخطىء من رمي به.
هذا وقد استشكل أمر الاستراق بأمور؛ منها: أن الملائكة في السماء مشغولون بأنواع العبادة؛ أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فماذا تسترق الشياطين منهم؟
وإذا قيل: إن منهم من يتكلم بالحوادث الكونية فهم على محدبها، والشياطين تسترق تحت مقعرها وبينهما كما صح في الأخبار خمسمائة عام فكيف يتأتى السماع لا سيما والظاهر أنهم لا يرفعون أصواتهم إذا تكلموا بالحوادث إذ لا يظهر غرض برفعها، وعلى تقدير أن يكون هناك