فإن قيل: إن هذا القذف إن كان لأجل النبوة فلم دام بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟
فالجواب: أنه دام بدوام النبوة؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر ببطلان الكهانة فقال:"ليس منا من تكهن" فلو لم تحرس بعد موته لعادت الجن إلى تسمعها وعادت الكهانة، ولا يجوز ذلك بعد أن بطل؛ ولأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين، ولم يُؤمن أن يظنوا أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة؛ فصح أن الحكمة تقضي دوام الحراسة في حياة النبي -عليه السلام-، وبعد أن توفاه اللَّه إلى كرامته -صلى اللَّه عليه وسلم-. {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} وأي: دائم؛ عن مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس: شديد. الكلبي، والسدي، وأبو صالح: موجع؛ أي الذي يصل وجعه إلى القلب؛ مأخوذ من الوصب وهو المرض.
قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} استثناء من قوله: {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} وقيل: الاستثناء يرجع إلى غير الوحي؛ لقوله تعالى:{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}(الشعراء: ٢١٢)، فيسترق الواحد منهم شيئًا مما يتفاوض فيه الملائكة، مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض؛ وهذا لخفة أجسام الشياطين فيرجمون بالشهب حينئذ، وروي في هذا الباب أحاديث صحاح مضمونها: أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء فتقعد للسمع واحدًا فوق واحد، فيتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه، فيقضي اللَّه تعالى الأمر من أمر الأرض، فيتحدث به أهل السماء فيسمعه منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته فربما أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه على ما بيناه، فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، وتصدق تلك الكلمة فيصدق الجاهلون الجميع كما بيناه في (الأنعام)، فلما جاء اللَّه بالإسلام حرست السماء بشدة، فلا يفلت شيطان سمع بَتَّةً، والكواكب الراجمة هي التي يراها الناس تنقض. قال النقاش ومكي: وليست بالكواكب الجارية في السماء؛ لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى حركتها؛ لأنها قريبة منا، وقد مضى في هذا الباب في سورة (الحجر) من البيان ما فيه كفاية، وذكرنا في (سبأ) حديث أبي هريرة؛ وفيه:(والشياطين بعضهم فوق بعض)،