للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا ريب أن كمال العبودية تابع لكمال المحبة، فإن القلوب لا يكون شيء أحب إليها منه ما دامت فطرها وعقولها سليمة، فلا ريب أن محبته توجب عبوديته وطاعته وتتبع مرضاته واستفراغ الجهد في التعبد له والإنابة إليه وهذا الباعث أكمل بواعث العبودية وأقواها حتى لو فرض تجرده عن الأمر والنهي والثواب والعقاب (١).

فعبد الله من يرضيه ما يرضى الله وشمخطه ما يسخط الله ويحب ما أحب الله ورسوله، فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول والجهاد في سبيله، وذلك لأن الجهاد حقيقة الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان، ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات (٢).

فكلما ازداد القلب حبًا لله ازداد له عبودية وحرية عما سواه، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائما مفتقر إلى حقيقة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (٣).

ولن يخلص العبد من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئًا لذاته إلا لله، ومتى لم يحصل له هذا لم يكن قد حقق حقيقة لا إله إلا الله، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، فكلما قوى إخلاص دينه لله كملت عبوديته لله واستغناؤه عن الخلق، فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه، ومحبوبه لا


(١) مفتاح دار السعادة لابن القيم ٢/ ٤٤١: ٤٤٠.
(٢) مجموعة التوحيد لابن تيمية (٤٢٨: ٤٢٥).
(٣) المصدر السابق.

<<  <  ج: ص:  >  >>