للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن جميع الموجودات سوى الله محدثة مخلوقة، لما قالوا له: يا رسول الله: أخبرنا عن بدء هذا الأمر؟ فقال: نعم. كان الله تعالى ولم يكن شيء، ثم خلق الله الأشياء.

فأثبت أن كل موجود سواه محدث مخلوق. وكذلك الخليل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، إنما استدل على حدوث الموجودات بتغيرها وانتقالها من حالة إلى حالة؛ لأنه لما رأى الكوكب قال: هذا ربي، إلى آخر الآياتِ فعلم أن هذه لما تغيرت وانقلت من حال إلى حال دلت على أنَّها محدثة مفطورة مخلوقة، وأن لها خالقًا، فقال عند ذلك {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (الأنعام: ٧٩).

وإذا صح حدوث العالم؛ فلا بد له من محدث أحدثه، ومصور صوره، والدليل على ذلك: أنَّ الكتابة لا بد لها من كاتب كتبها، والصورة لا بد لها من مصور صورها، والبناء لا بد له من بأن بناه. فإنا لا نشك في جهل من أخبرنا بكتابة حصلت بنفسها لا من كاتب، وصناعة لا من صانع، وحياكة لا من ناسج. وإذا صح هذا وجب أن تكون صور العالم وحركات الفلك متعلقة بصانع صنعها، ومحدث أحدثها، إذ كانت ألطف وأعجب صنعًا من سائر ما يتعذر وجوده إلا من صانع.

دليل ثان: ويدل على ذلك أيضًا: علمنا بتقدم الحوادث بعضها على بعض، وتأخر بعضها عن بعض، مع علمنا بتجانسها وتشاكلها، فلا يجوز أن يكون المتقدم منها متقدمًا لنفسه؛ لأنه لو تقدم لنفسه لوجب تقديم كل ما هو من جنسه معه، وكذلك المتأخر منها، لو تأخر لنفسه وجنسه لم يكن المتقدم منها بالتقدم أولى منه بالتأخر، وفي علمنا بأن المتقدم من المتماثلات بالتقدم أولى منه بالتأخر، دليل على أن له مقدمًا قدمه، وعاجلًا عجله في الوجود، مقصورًا على مشيئته.

ويدل على صحة ما ذكرناه: أنَّ الموجودات لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها، أنا وجدنا منها الموات والأعراض، أعني الجمادات التي لا حياة فيها، لا يجوز أن تكون فاعلة لنفسها ولا لغيرها، لأن من شرط الفاعل أن يكون حيًا قادرًا، فبطل كونها محدثة لنفسها بل لها مُحدِثٌ أحدثها.

ويدل على صحة ذلك أيضًا: أنَّا وجدنا أنفس الموجودات في العالم، الحي القادر العاقل

<<  <  ج: ص:  >  >>