للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جاءت موجات هؤلاء من الشرق فاندحرت جيوش المسلمين أمام أمواج مدهم الكبير، ولم ينزل من الخطوب والويلات مثل ما نزل من جراء وحشية المغول الذين اكتسحوا كل مدنية وثقافة وداسوها، تاركينها وراءهم صحراء خالية وأطلالا دارسة، "ففي بخارى اتخذ المغول من مساجدها المقدسة اصطبلات لخيولهم (١) ومزَّقوا المصاحف ووطئوها بدوابهم" وكذلك في سمرقند وبلخ وغيرها من مدن آسيا الوسطى التي كانت من قبل فخر الحضارة الإسلامية، ومواطن الأولياء وكعبة العلوم، كما كان ذلك أيضًا مصير بغداد".

وابن الأثير أخذته القشعريرة حين أراد وصف غارات المغول، حيث يقول: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه"رجلًا" وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا "ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا" (٢).

وتكفينا هذه الفكرة عن المصيبة التي حلت بالحضارة الإنسانية، وخاصة بإغراق كتب مكتبة "دار الحكمة" التي أسسها هارون الرشيد، وآتت أكلها أيام المأمون في نهر دجلة، فبقي أيامًا يجري ومياهه سوداء من لون الحبر الأسود.

وهكذا إن الحضارة قد تأخرت قرونًا بسبب ضياع علوم هذه المكتبة الإسلامية الفريدة من نوعها.

أمام هذا الانكسار العسكري أمام المغول الذين اكتسحوا العالم من الصين حتى فلسطين، كان لابدّ من إثبات أن الإسلام ليس كغيره من المبادئ التي ظهرت في هذا العالم، فأمام عظمته الذاتية، وبتحرك غريب، لا ندري كيف كان الله -عَزَّ وَجَلَّ- يكتب له النصر!

لقد كان لابدّ للإسلام أن ينهض من تحت أنقاض عظمته الأولى، وأطلال مجده التالد، في كل مرّة وبطريقة جديدة. فاستطاع بدعاته أن يغزو قلوب أولئك الفاتحين المتبربرين،


(١) الدعوة إلى الإسلام ص ٢٤٩.
(٢) الكامل في التاريخ لابن الأثير: ١٢/ ٢٤٣ - ٢٤٤ وذلك في حوادث سنة ٦١٧ هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>