وإنما تنبع من كونه إنسانًا من هذا النوع الذي أفاض عليه ربه الكريم، ولم تكن هذه المبادئ نظرية، إنما كانت واقعًا عمليًا، تمثل في حياة الجماعة المسلمة، وانساحت به في أرجاء الأرض، فعلمته للناس، وأقرته في أوضاع حياتهم كذلك، وعلمت جمهور الناس - ذلك الغثاء - أنه كريم، وأن له حقوقًا، هي حقوق الناس، وأن له أن يحاسب حكامه وأمراءه، وأن عليه ألا يقبل الذلّ والضّيم والمهانة، وعلمت الحكام والأمراء ألا تكون لهم حقوق زائدة على حقوق الجماهير من الناس، وأنه ليس لهم أن يهينوا كرامة أحد ممن ليس بحاكم أو أمير.
وهذه بعض الأمثلة:
لما تولّى أبو بكر الخلافة، قام فخطب الناس فقال: لقد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.
وخطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال يعلم الناس حقوقهم تجاه الأمراء:
يا أيها الناس، إني والله ما أرسل إليكم عمالًا ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا من أموالكم، ولكني أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء من ذلك فليرفعه إلىَّ، فوالذي نفس عمر بيده لأقُصَّنَّهُ منه. . . فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيته فأدب بعض رعيته، إنك لتقتص منه؟
قال عمر: إي والذي نفسي بيده لأقُصَّنَّهُ منه، وكيف لا أقص منه وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص من نفسه، ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفرونهم.
وكتب عثمان - رضي الله عنه - كتابًا إلى جميع الأمصار قال فيه: إني آخذ عمّالي بموافقاتي كل موسم، قد سلطت الأمة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلا يرفع على شيء ولا أحد من عمّالي إلا أعطيته، وليس لي ولا لعمّالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلىَّ أهلُ المدينة أنَّ أقوامًا يشتمون ويضربون.