أهل القدرة في أفانين الكلام نظما ونثرا، وترغيبا وزجرا، قد خُصوا من بين الأمم بقوة الذهن، وشدة الحافظة، وفصاحة اللسان، وتبيان المعاني، فلا يستصعب عليهم سابق من المعاني، ولا يجمح بهم عسير من المقامات (١).
وقال مالك بن نبي: لم يذكر التاريخ أن أحدًا قد أجاب على هذا التحدي، وبهذا يمكن أن نستخلص أنه قد ظل دون تعقيب وإن إعجازه الأدبي قد أفحم فعلا عبقرية ذلك العصر. فكان عجزُهم بعد ذلك أشنعَ وأبشعَ وسَجَّلَ الله عليهم الهزيمة أبد الدهر فلم يفعلوا ولن يفعلوا فافتضح أمرهم.
فكفار قريش الذين عجزوا كانوا أعلم الناس بأشعار العرب وأحفظهم له، وأعرفهم بمداخله ومخارجه، وقد كانوا مع ذلك أحرص الناس على بيان كذب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه ما هو إلا ساحر أو كاهن أو شاعر، والله تعالى ردَّ عليهم بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١)} [الحاقة: ٤١]، وقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (٧٠)} [يس: ٦٩, ٧٠]، فلم يستطيعوا تكذيب كلام الله تعالى، ولم يقدروا على أن يأتوا بدليل على كلامهم من كونه شاعرا إلا التهويش والتكذيب، ثم لو كان اقتبس في القرآن من ذلك الشعر المنسوب لامرئ القيس، لكان كفار قريش - وهم الحفاظ لشعره - أولَ من يستعين بذلك في رد كلام الله تعالى.
بل ولم يستطيعوا أن يخفوا أو ينكروا إعجاز القرآن وبلاغته وقوته، كما سيأتي بعد قليل. وإن من أعجب العجب أن يخرج علينا الأعجمي الذي لم يرضع اللسان العربي والذي لا يطيق الإبانة عن نفسه بلسان عربي، فيُخَطِّئُ - ما عجزت عنه العرب قاطبة - أحْكَمَ القَولِ وأبلغَهُ، يخطِّئُ الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، بلسان عربي مبين.