إبراهيم - عليه السلام -: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}[الأنعام: ٧٦] لا جرم عبر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة، وعنها بطريق الخطاب إعطاءً لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب. وأيضًا من تشبه بقوم فهو منهم، فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر، ومزج عبادته بعبادتهم، وتكلم بلسانهم وساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوبًا في عدادهم مندرجًا في سياقهم:
إن لم تكونوا منهم فتشبهوا ... إن التشبه بالكرام فلاح
وأيضًا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب والانكسار، ورأى نفسه بعيدًا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار، فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية، وتلحقه عناية أزلية إلى حظائر القدس، وتطلعه على سرائر الأنس؛ فيصير واطئًا على بساط الاقتراب، فائزًا بعز الحضور وسعادة الخطاب. وأيضًا إنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة؛ فإن خطبها عظيم، ومن دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب؛ قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره؛ ليأتي بها العابد خالية عن الكلال، عارية عن الفتور والملال، مقرونة بكمال النشاط، موجبة لتمام الانبساط:
وأيضًا: إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير، في دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم، ويخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديهم، وأما إذا آل أمره بملازمة الأذكار إلى ارتفاع الحجب والأستار، واضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق، والجمال المطلق، وانتهى إلى مقام الجمع وصار في مقعد {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}[البقرة: ١١٥] فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه، ولا يمكن إظهار السر إلا لديه؛ فينعطف عنان لسانه إلى جنابه، ويصير كلامه منحصرًا في خطابه، وثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة، وعندي وهو من نسائم الأسحار، أن الله سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين وهو يوم القيامة