للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن هذا ما فعله يوسف - عليه السلام -، فحين أصابه قدر من الظلم والسجن شرع في دفعه بقدر طلب الشفاعة العادلة لدى الملك الذي أقدره الله على أن يرفع الظلم عنه، ويتأكد أخذ الأسباب في هذا النوع من الحكم الكوني القدري إذا كان في الذي تفر إليه طاعة لله وعبودية محبوبة له، وقد يكون واجبًا أن يأخذ بالأسباب، فمن ترك نفسه للجوع حتى هلك مع قدرته على الأكل كان آثمًا، ومن ترك أولاده بلا نفقة وهو قادر على الكسب برغم التسليم بالقدر كان آثمًا؛ مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وكفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت". (١)

القسم الثالث: من الحكم الكوني الحكم على العبد بالمعصية والخذلان، فهذا يجب عليه أن يفر منه وينازعه بقدر من الطاعة والتوبة والإنابة والتضرع إلى الله أن يأخذ بناصيته إليه، وأن يوفقه لما يحب ويرضى، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وبهذا يحقق العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)}، وفي هذا النوع بعد تحقيق التوبة والإنابة والإصلاح ما استطاع - يكون القدر بالنسبة إلى ما قد دفع في الماضي بالفعل ولا قدرة على تغيير هذا الماضي، بل قدرته في إزالة آثاره وقد فعل؛ يكون القدر في هذه الحالة عذرًا للعبد وحجة يحتج بها (كما حَجَّ آدمُ موسى بذلك). (٢)

وكما قال كعب بن مالك - رضي الله عنه - بعد توبته وقبولها: (فهممت أن أرتحل فأدركهم فيا ليتني فعلت، غير أنه لم يقدر له ذلك). (٣) فهو باقٍ على ندمه على التخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، ويتمنى أن لو كان لم يقع في الذنب، وهذا من كمال الندم، ولكنه يسلي نفسه ويعزيها بالقدر كما أنه في النوع الثاني؛ وهو الحكم الكوني الذي للعبد فيه قدرة على الأسباب - يكون الاستسلام للقدر مأمورًا به بعد استفراغ الوسع في أخذ الأسباب، وقد لا تثمر ثمرتها


(١) أخرجه مسلم (٩٩٦) بلفظ (كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يقوت)، وأبو داود (١٦٩٢)، وأحمد (٦٤٥٩)، وحسنه الألباني في الجامع (٤٤٨١)، وأخرجه الطيالسي (٢٢٨١) وغيرهم من طرق عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا.
وفيه وهب بن جابر: قال ابن حجر: مقبول؛ كما في التقريب (٢/ ٦٥١).
(٢) أخرجه البخاري (٣٤٠٩)، مسلم (٢٦٥٢).
(٣) أخرجه مسلم (٢٧٦٩) بلفظ: (ثم لم يقدر)، وأحمد (١٥٣٦٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>