للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْكُسُوف لِقَوْمٍ دُون قَوْم. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اِنْشِقَاق الْقَمَر آيَة عَظِيمَة لَا يَكَاد يَعْدِلهَا شَيْء مِنْ آيَات الْأَنْبِيَاء، وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ فِي مَلَكُوت السَّمَاء خَارِجًا مِنْ جُمْلَة طِبَاع مَا فِي هَذَا الْعَالَم الْمُرَكَّب مِنْ الطَّبَائِع، فَلَيْسَ مِمَّا يُطْمَع فِي الْوُصُول إِلَيْهِ بِحِيلَةٍ، فَلِذَلِكَ صَارَ الْبُرْهَان بِهِ أَظْهَر، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضهمْ فَقَالَ: لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجُز أَنْ يَخْفَى أَمْره عَلَى عَوَامّ النَّاس لِأَنَّهُ أَمْر صَدَرَ عَنْ حِسّ وَمُشَاهَدَة فَالنَّاس فِيهِ شُرَكَاء وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَة عَلَى رُؤْيَة كُلّ غَرِيب وَنَقْل مَا لَمْ يُعْهَد، فَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ أَصْل لَخُلِّدَ فِي كُتُب أَهْل التَّسْيِير وَالتَّنْجِيم، إِذْ لَا يَجُوز إِطْبَاقهمْ عَلَى تَرْكه وَإِغْفَاله مَعَ جَلَالَة شَأْنه وَوُضُوح أَمْره. وَالْجَوَاب عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّة خَرَجَتْ عَنْ بَقِيَّة الْأُمور الَّتِي ذَكَرُوهَا لِأَنَّهُ شَيْء طَلَبه خَاصة مِنْ النَّاس فَوَقَعَ لَيْلًا لِأَنَّ الْقَمَر لَا سُلْطَان لَهُ بِالنَّهَارِ وَمِنْ شَأْن اللَّيْل أَنْ يَكُون أَكْثَر النَّاس فِيهِ نِيَامًا وَمُسْتَكِنِّينَ بِالْأَبْنِيَةِ، وَالْبَارِز بِالصَّحْرَاءِ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ يَقْظَان يَحْتَمِل أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت مَشْغُولًا بِمَا يُلْهِيه مِنْ سَمَر وَغَيْره، وَمنْ الْمُسْتَبْعَد أَنْ يَقْصِدُوا إِلَى مَرَاصِد مَرْكَز الْقَمَر نَاظِرِينَ إِلَيْهِ لَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ، فَقَدْ يَجُوز أَنَّهُ وَقَعَ وَلَمْ يَشْعُر بِهِ أَكْثَر النَّاس، وَإِنَّمَا رَآهُ مَنْ تَصَدَّى لِرُؤْيَتِهِ مِمَّنْ اِقْتَرَحَ وُقُوعه، وَلَعَلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي قَدْر اللَّحْظَة الَّتِي هِيَ مَدَرك الْبَصَر. (١)

الوجه الثالث: جائز أن يستره الله عنهم بغيم أو يشغلهم عن رؤيته ببعض الأمور لضرب من التدبير ولئلا يدعيه بعض المتنبئين في الآفاق لنفسه فأظهره للحاضرين عند دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم واحتجاجه عليهم (٢).

الوجه الرابع: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَد مِنْهُمْ أَنَّهُ نَفَاهُ، وَهَذَا كَافٍ، فَإِنَّ الْحُجَّة فِيمَنْ أَثْبَتَ لَا فِيمَنْ يُوجَد عَنْهُ صَرِيح النَّفْي، حَتَّى إِنَّ مَنْ وُجِدَ عَنْهُ صَرِيح النَّفْي يُقَدَّم عَلَيْهِ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ صَرِيح الْإِثْبَات.

الوجه الخامس: إِنَّ زَمَن الِانْشِقَاق لَمْ يَطُلْ وَلَمْ تَتَوَفَّر الدَّوَاعِي عَلَى الِاعْتِنَاء بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ بَعَثَ أَهْل مَكَّة إِلَى آفَاق مَكَّة يَسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ فَجَاءَتْ السِّفَار وَأَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرِينَ فِي اللَّيْل غَالِبًا يَكُونُونَ سَائِرِينَ فِي ضَوْء الْقَمَر وَلَا


(١) فتح الباري (٧/ ١٨٥)، وانظر إظهار الحق (٢/ ١٨٧).
(٢) أحكام القرآن للجصاص (٥/ ٢٩٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>