للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاتحًا مصلحًا- سوف يغلب على أمره ويضطهد أهله بتداعي الأمم عليهم؛ حتى يضطر إلى الانقباض والأُرُوز إلى وطنه الأصلي به وهو الحجاز، فيعتصم فيه ويكون معقلًا وملجأً، وهذا النبأ النبوي الذي يعد من أظهر أنباء الغيب يصدق بدين الإسلام نفسه وبرجاله وأنصاره. (١)

وفي الحديث بيان مبدأ الإسلام وأنه بدأ غريبًا بين الأديان، وكان أهله غرباء بين الناس، وكان المستجيب له غريبًا بين أهله وعشيرته يؤذى بسبب ذلك، ويفتن في دينه ويعادى على ذلك، وكان المسلمون صابرين راضين بقضاء الله، مطيعين لأوامر رسوله -صلى الله عليه وسلم-، حتى قوي الإسلام واشتد عوده في المدينة؛ فزالت غربته عندما انتشر في أرض العرب، وكان أهله هم الظاهرين على من ناوأهم، وسيعود الإسلام غريبًا كما بدأ (كما هو حال زماننا هذا) لقلة المتمسكين به، وهذه الغربة تزداد شيئًا فشيئًا بسبب دخول فتنة الشبهات والشهوات على الناس (٢).

قال ابن القيم: فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون؛ ولقلتهم في الناس جدًّا سموا غرباء؛ فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًّا؛ فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين (٣).

وقال أيضًا: ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله؛ لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده؛ وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقًّا، وأكثر الناس بل كلهم


(١) مجلة المنار (٢٢/ ٢٣).
(٢) مجلة البيان (٧/ ٢٣: ٢٢).
(٣) مدارج السالكين (٣/ ١٩٦: ١٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>