أن وجه قول عمر هذا إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشي عليهم الاشتغال بغيره عنه إذ هو الأصل لكل علم، هذا معنى قول أبي عبيد في ذلك.
وطعن غيرهم في حديث قرظة هذا وردوه؛ لأن الآثار الثابتة عن عمر - رضي الله عنه - خلافه، منها ما روى مالك ومعمر وغيرهما عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حديث السقيفة أنه خطب يوم جمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها؛ فإني لا أحل له أن يكذب عليَّ.
وهذا يدل على أن نهيه عن الإكثار وأمره بإقلال الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان خوف الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخوفًا أن يكون مع الإكثار أن يحدثوا بما لم يتقنوا حفظه ولم يعوه؛ لأن ضبط من قلت روايته أكثر من ضبط المستكثر وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يؤمن مع الإكثار؛ فلهذا أمرهم عمر بالإقلال من الرواية ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإقلال منها والإكثار، ألا تراه يقول: فمن حفظها ووعاها فليحدث بها، فكيف يأمرهم بالحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينهاهم عنه؟ هذا لا يستقيم بل كيف ينهاهم عن الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويأمرهم بالإقلال منه وهو يندبهم إلى الحديث عن نفسه؟ بقوله:"من حفظ مقالتي ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته" ثم قال: "ومن خشي أن لا يعيها فلا يكذب علي" وهذا يوضح لك ما ذكرنا، والآثار الصحاح عنه من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا، وإنما يدور على بيان عن الشعبي وليس مثله حجة في هذا الباب؛ لأنه يعارض السنن والكتاب، قال الله عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب: ٢١]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: ٧] وقال في النبي- صلى الله عليه وسلم -: {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: