للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

أقسام الأطباء، ومن يضمن منهم أخطاءه الطبية في علاجه

[السُّؤَالُ]

ـ[أريد أن أعرف إذا كان أثناء عملية العلاج حدثت أخطاء طبيَّة غير مقصودة، وغير متوقعة، في هذه الحالة ما هي المسئوليات الواقعة على عاتق الأطباء، وفي علم الطب: الأطباء – غالباً - ما يكشفون الخطأ للمرضى، هل هناك عقوبة على الأطباء إذا كانت الأخطاء لا تقبل التعديل؟ .]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

الأخطاء الطبية باتت مصدر قلق لكثير من الناس في بلدان العالم، المتقدمة منها وغيرها، فقد بلغت في الولايات المتحدة - مثلاً – ٩٨.٠٠٠ حالة وفاة نتيجة الأخطاء الطبية كل عام! ومثله يقال في دول أخرى كبريطانيا وألمانيا، ولعلَّ الاستهانة بأرواح الناس من أجل تجريب الأدوية والعلاجات هو من الأسباب في تلك الأخطاء المزعومة، وللأسف نجد كثيراً من القضايا المرفوعة على الأطباء لا يكتب لها النجاح؛ والسبب في ذلك أن اللجان الطبية تتعاطف مع الطبيب أكثر من تعاطفها مع المعوق أو الميت، وبالأحرى أكثر من تعاطفها مع الحق.

ثانياً:

أما بخصوص ضمان الطبيب للخطأ – أو العمد – في علاجه للمريض: فإن هناك أصلاً في السنَّة النبوية في هذه المسألة، وهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ) رواه أبو داود (٤٥٨٦) والنسائي (٤٨٣٠) وابن ماجه (٣٤٦٦) ، وفي إسناده كلام، وحسَّنه الألباني في " سنن أبي داود ".

قال ابن قيم الجوزية رحمه الله:

وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَطَبَّبَ) ولم يقل: "من طبَّ"؛ لأن لفظ التفعُّل يدل على تكلف الشيء، والدخول فيه بعسر، وكلفة، وأنه ليس من أهله.

"زاد المعاد" (٤/١٢٧) .

ويضمن الطبيب ما يتلفه من نفس أو أعضاء في الحالات الآتية:

١. المتعدي العامد.

قال الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله:

وبتعمد الطبيب للقتل، والقطع للعضو بقصد الضرر: خرج عن كونه طبيباً إلى كونه ظالماً معتدياً، وأصبح وصفه بكون طبيباً لا تأثير له؛ لخروجه بتلك الجناية عن حدود الطب مع قصدها.

وهذا الأثر قلَّ أن يوجد عند الأطباء؛ لما عُرف عنهم من الحرص على نفع مرضاهم، وهم محل حسن الظن، ولذلك نجد الفقهاء رحمهم الله يعتبرون هذا الأصل فيهم، ومن ثم قال بعضهم عند بيانه لعلة إسقاط القصاص عن الطبيب إذا قصَّر: " والأصل عدم العداء إن ادعِيَ عليه بذلك ".

" أحكام الجراحة الطبية " (ص ٣٦٥) .

٢. المعالج الجاهل.

وهو بجهله يعدُّ متعديّاً، والحديث السابق نصٌّ في أنه يضمن.

قال ابن القيم رحمه الله:

وأما الأمر الشرعي: فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى علم الطب، وعمله، ولم يتقدم له به معرفة: فقد هجم بجهله على إتلاف الأنفس، وأقدم بالتهور على ما لم يعلمه، فيكون قد غرر بالعليل، فيلزمه الضمان لذلك.

قال الخطابي: " لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدَّى فتلف المريض كان ضامناً، والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه: متعدٍّ، فإذا تولد من فعله التلف: ضمن الدية، وسقط عنه القَوَد [القصاص] ؛ لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض" انتهى.

"زاد المعاد" (٤/١٢٧، ١٢٨) .

وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:

أما إذا لم يكن حاذقاً: فلا يحل له مباشرة العملية، بل يحرم، فإن أجراها: ضمن ما أخطأ فيه وسرايته.

الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي.

"فتاوى اللجنة الدائمة" (٢٤/٤٠٠٠) .

وهذا الضمان من الطبيب الجاهل المتعدي يكون حيث لا يعلم المريض أن الطبيب يجهل الطب والعلاج، فإن علِم أنه جاهل ورضي به معالِجاً: سقط حقه، ولم يضمن الطبيب، مع استحقاقهما للتعزير.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:

إن كان المريض يعلم منه أنه جاهل لا علم له بالطب، وأذن له في معالجته مقدماً على ما يحصل منه، وهو بالغ، عاقل: فلا ضمان على الطبيب في هذه الحالة.

" فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم " (٨ / ١٠٤) .

٣. الطبيب الماهر الذي أخطأت يدُه.

ويضمن الطبيب الماهر إذا أخطأت يده فأتلفت عضواً صحيحاً، أو مات المريض بسبب ذلك الخطأ.

قال ابن المنذر رحمه الله:

وأجمعوا على أن قطع الخاتن إذا أخطأ، فقطع الذَّكر، والحشفة، أو بعضها: فعليه ما أخطأ به، يعقله عنه العاقلة.

" الإجماع " (٧٤) .

العاقلة، هي ما يسمى الآن "العائلة"، والمراد هنا: الأقارب الذكور الذين ينتسبون إلى نفس العائلة، كالأب والجد والابن والإخوة والأعمام وأبنائهم.

وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:

وكذا إن كان حاذقاً، لكن جنت يده، بأن تجاوزت ما تحتاج إليه العملية، أو أجراها بآلة كالة يكثر ألمها، أو في وقت لا يصلح عملها فيه، أو أجراها في غيرها، ونحو ذلك: ضمن ما أخطأ فيه، وسرايته؛ لأن هذا فعل غير مأذون فيه، بل محرم.

الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي.

"فتاوى اللجنة الدائمة" (٢٤/٤٠٠، ٤٠١) .

٤. الطبيب الماهر إذا أخطأ في وصف الدواء.

كما يضمن الطبيب الماهر إذا اجتهد في وصف دواء لمريض، ويكون أخطأ في تلك الوصفة، فأتلفت عضواً، أو قتلت المريض.

٥. الطبيب الماهر الذي فعل ما لا يفعله غيره من أهل الاختصاص.

وهو الطبيب الذي يتجاوز الحدود المعتبرة عند أهل الطب، أو يقصِّر في التشخيص.

٦. الطبيب الذي يعالج وفق أصول المهنة، لكن من غير إذن ولي الأمر، ومن غير إذن المريض، ويتسبب ذلك العلاج بأضرار، وفاة، أو ما دونها، وجمهور العلماء على تضمينه، وهو الذي رجحه الشيخ محمد المختار الشنقيطي في " أحكام الجراحة الطبية " (٣٦٢) .

قال الإمام الشافعي رحمه الله:

وإذا أمر الرجل أن يحجمه، أو يختن غلامه , أو يبيطر دابته، فتلفوا من فعله: فإن كان فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بالصناعة: فلا ضمان عليه، وإن كان فعل ما لا يفعل مثله من أراد الصلاح، وكان عالماً به: فهو ضامن.

"الأم" (٦/١٦٦) .

وقد قسَّم ابن القيم رحمه الله الأطباء المعالجين خمسة أقسام، وذكر حكم كل قِسم، ونحن نذكرها للفائدة، وفيها جواب السائل وزيادة:

قال رحمه الله:

قلت: الأقسام خمسة:

أحدها: طبيب حاذق، أعطى الصنعة حقها، ولم تجنِ يدُه، فتولَّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة من يطبه: تلف العضو، أو النفس، أو ذهاب صفة: فهذا لا ضمان عليه، اتفاقاً؛ فإنها سراية مأذون فيه [السراية: ما ترتب على الفعل ونتج منه] ، وهذا كما إذا ختن الصبي في وقت وسنُّه قابل للختان، وأعطى الصنعة حقها، فتلف العضو، أو الصبي: لم يضمن.

القسم الثاني: مطبِّب جاهل، باشرت يدُه من يطبه، فتلف به: فهذا إن علم المجني عليه أنه جاهل لا علم له، وأذن له في طبه: لم يضمن، ولا تخالف هذه الصورة ظاهر الحديث؛ فإن السياق وقوة الكلام يدل على أنه غرَّ العليل، وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظن المريض أنه طبيب، وأذن له في طبِّه لأجل معرفته: ضمِن الطبيب ما جنت يدُه، وكذلك إن وصف له دواء يستعمله، والعليل يظن أنه وصفه لمعرفته، وحذقه، فتلف به: ضمنه، والحديث ظاهر فيه، أو صريح.

القسم الثالث: طبيب حاذق، أُذن له، وأَعطى الصنعة حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت إلى عضو صحيح، فأتلفه، مثل: أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرة - وهي: رأس الذَّكَر-: فهذا يضمن؛ لأنها جناية خطأ، ثم إن كانت الثلث فما زاد: فهو على عاقلته، فإن لم تكن عاقلة: فهل تكون الدية في ماله، أو في بيت المال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.

القسم الرابع: الطبيب الحاذق الماهر بصناعته، اجتهد، فوصف للمريض دواءً، فأخطأ في اجتهاده، فقتله: فهذا يخرَّج على روايتين، إحداهما: أن دية المريض في بيت المال، والثانية: أنها على عاقلة الطبيب، وقد نص عليهما الإمام أحمد في خطأ الإمام، والحاكم.

القسم الخامس: طبيب حاذق أعطى الصنعة حقَّها، فقطع سِلْعة – لحمة زائدة - مِن رجُل، أو صبي، أو مجنون، بغير إذنه، أو إذن وليه، أو ختن صبيّاً بغير إذن وليه، فتلف، فقال أصحابنا: يضمن؛ لأنه تولد من فعل غير مأذون فيه، وإن أذِن له البالغ، أو ولي الصبي، والمجنون: لم يضمن، ويحتمل أن لا يضمن مطلقاً؛ لأنه محسن، وما على المحسنين من سبيل، وأيضاً: فإنه إن كان متعديّاً: فلا أثر لإذن الولي في إسقاط الضمان، وإن لم يكن متعديّاً: فلا وجه لضمانه، فإن قلت: هو متعد عند عدم الإذن، غير متعد عند الإذن قلت: العدوان، وعدمه، إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع نظر.

"زاد المعاد" (٤/١٢٨ – ١٣٠) .

وذكر ابن القيم رحمه الله بعد ذلك فصلاً نافعاً في " الطبيب الحاذق " وأنه هو الذي يراعي عشرين أمراً! وذكرها هناك، فلتنظر.

ومن أعطى المهنة حقَّها، وعالج وفق الأصول المهنية المعروفة، وترتب على عمله خطأ، كتلف عضو أو وفاة: لم يضمن الطبيب شيئاً؛ لأنه مأذون له في العلاج من ولي الأمر، ومن المريض أو وليه؛ ولأنه حاذق في مهنته، ولو ضمِّن مثل هذا لكان فيه ظلم له.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:

إذا كان الطبيب حاذقاً، وأعطى الصنعة حقَّها، ولم تجن يده، أو يقصر في اختيار الدواء الملائم بالكمية، والكيفية، فإذا استكمل كل ما يمكنه، ونتج من فعله المأذون من المكلف، أو ولي غير المكلف تلف النفس، أو العضو: فلا ضمان عليه، اتفاقاً؛ لأنها سراية مأذونة فيها، كسراية الحد، والقصاص.

"فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (٨/١٠٤) .

قال علماء اللجنة الدائمة:

إذا فعل الطبيب ما أُمر بفعله، وكان حاذقاً في صناعته، ماهراً في معرفة المرض الذي يجري من أجله العملية وفي إجرائها، ولم يتجاوز ما ينبغي أن يفعله: لم يضمن ما أخطأ فيه، ولا ما يترتب على سرايته من الموت، أو العاهة؛ لأنه فعل ما أذن له فيه شرعاً، ونظيره ما إذا قطع الإمام يد السارق، أو فعل فعلاً مباحاً له، مأذوناً له فيه.

الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي.

" فتاوى اللجنة الدائمة " (٢٤ / ٤٠٠) .

فهذه أقسام الأطباء، وهذه أحوالهم وأحكامهم، وتنطبق هذه الأحكام على كل من يشتغل بالطب، وتصدق هذه الأحكام على: الحجّام، والفاصد، والمجبِّر، والكوَّاء، والمعالج للحيوانات، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله بعد ذِكره تلك الأقسام للأطباء.

والواجب على الأطباء أن يتقوا الله تعالى في مرضاهم، وأن لا يتعجلوا التشخيص، وأن يتعاون مع غيره ممن هم أعلم منه، وأن يعترف من أخطأ منهم.

قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء:

يجب على الطبيب أن يتحرى في تشخيص المرض، ويتعاون مع زملائه في ذلك قبل إجراء العملية، ويستعين في التشخيص بقدر الإمكان بالآلات الحديثة، ولا يتعجل بالعملية قبل التأكد من التشخيص، وإذا أجراها بعد ذلك وأخطأ: فعليه أن يعلن خطأه لمن هو مسئول أمامهم، ولا يموه، ولا يعمِّي، ويسجل ذلك في ملف المريض؛ خوفاً من الله تعالى؛ وأداء لواجب الأمانة؛ وإيثاراً لمصلحة المريض؛ وتقديما لها على مصلحة المعالج؛ ودفعا لما قد يترتب على التعمية والتمويه من العواقب السيئة للمريض.

الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي.

"فتاوى اللجنة الدائمة" (٢٤/٤٠١) .

ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>