هل يمكن أن يتوحد المسلمون مع اختلاف ما بينهم في العقيدة والمنهج؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن أن يتوحد المسلمون مع اختلاف ما بينهم في العقيدة والمنهج؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
إن اختلاف الناس فيما بينهم في العقيدة والمنهج سنَّة كونية، وقد أخبر الله تعالى عن وقوعها في خلقه، وأخبر عن قدرته بتوحيدهم جميعاً على دين واحدٍ، لكنَّ الله تعالى له حكمة بالغة في عدم فعل ذلك؛ ليثيب الطائعين الموحدين، ويعاقب العاصين والمشركين، ولو جعل الله تعالى الناس أمة واحدة لم يظهر فضل التوحيد والموحدين، ولم يظهر قبح المعصية والعاصين، ولله تعالى أسماء وصفات اقتضت حكمته في الاختلاف أن تظهر في خلقه.
قال الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هود /١١٨، ١١٩.
قال ابن جرير الطبري – رحمه الله -:
يقول تعالى ذِكره: ولو شاء ربك، يا محمد، لجعل الناس كلها جماعة واحدة، على ملة واحدة، ودين واحد.
" تفسير الطبري " (١٥ / ٥٣١) .
وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -:
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمَّةً واحدة، من إيمان أو كفران، كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) يونس / ٩٩، وقوله: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي: ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم، واعتقادات مللهم، ونِحلهم، ومذاهبهم، وآرائهم.
" تفسير ابن كثير " (٤ / ٣٦١) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله -:
يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق فيما قاله، والضلال في قول غيره.
(إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي.
وأما من عداهم: فهم مخذولون، موكولون إلى أنفسهم.
وقوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) أي: اقتضت حكمته أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدلُه، وحكمتُه، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء.
" تفسير السعدي " (ص ٣٩٢) .
ثانياً:
وكيف سيتوحد المسلمون على شيء يجمعهم جميعاً غير التوحيد والعقيدة؟! إن الناظر في أحوال المسلمين يجدهم مدارس وجماعات وأحزابا وأفكارا شتى، رضي كل واحد لنفسه طريقاً في فهم نصوص الوحي، والعمل للإسلام، فحصل الاختلاف، والتفرق، والتشتت، ولو أنهم رضوا لأنفسهم منهجاً واحداً، واعتقاداً واحداً لاجتمعوا، وصاروا أمة واحدة، ولكنهم لم ينظر أكثرهم – وخاصة رؤوس الجماعات والأحزاب – للعقيدة الحقة أنها سبيل توحيد، بل رأوا أنهم تفرِّق المسلمين! كما زعم بعض أقطابهم، وهذه كلمة منكرة، ولا يمكن أن يكون توحيد للمسلمين وفيهم أمثال هذا القائل! .
جاء النبي صلى الله عليه وسلم على الناس وهم أحزاب وجماعات وأمم وأفكار وأديان مختلفة، وفيهم الأبيض والأسود، والرجل والمرأة، والعامي والمتعلم، والغني والفقير، والسادة والضعفاء، فلم يجمعهم على لغة، ولا على أرض، ولا على فكر بشر، بل جمعهم على شيء معصوم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، جمعهم على القرآن، والتوحيد، وهذا هو السبيل الوحيد لأن يجتمع الناس كلهم على اختلاف مشاربهم وأهوائهم ولغاتهم وأماكنهم، ولن يجدوا خيراً من هذا السبب في توحدهم، واجتماعهم وتآلفهم، وأما عندما يراد تجميع الناس وتوحيدهم على فكر بشر قابل للنقض والرد والتعديل والحذف: فهذا ما لا يمكن أن يكون سبيلاً لتوحد المسلمين، وعندما يراد تجميع الناس وتوحيدهم على قضية سياسية: فهذا لا يمكن أن يجتمع عليه الناس؛ لاختلاف أفهامهم وآرائهم فيها، كما لا يمكن لأرض أن تجمع المسلمين؛ لتعلق كل نفس بوطنها وأرضها، فلم يبق أمام المسلمين من سبيل لتوحدهم وتجمعهم إلا العقيدة الصحيحة، والتي منبعها نصوص الوحي المعصومة، ولن يَصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلَح به أولُّها.
ثالثاً:
بما أن أسباب تفرق المسلمين قائمة: فإن تفرقهم هو الثمرة، وهو النتيجة، وقد تنوع ذِكر الأسباب في كلام أهل العلم، وقد جمعها الإمام الشاطبي في ثلاثة أسباب: الجهل، والهوى، واتباع الآباء والأشياخ على عمى.
قال الشاطبي – رحمه الله -:
كل خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك: فله أسباب ثلاثة، قد تجتمع، وقد تفترق:
أحدها: أن يعتقد الإنسان في نفسه، أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم، والاجتهاد في الدين، ولم يبلغ تلك الدرجة، فيعمل على ذلك، ويعد رأيَه رأياً، وخلافَه خلافاً، ولكن تارة يكون ذلك في جزئيٍّ، وفرعٍ من الفروع، وتارة يكون في كلِّي وأصلٍ من أصول الدين، كان من الأصول الاعتقادية، أو من الأصول العملية، فتارة آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له بادىء رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها، وهذا هو المبتدع، وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يَبقَ عالمٌ اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) .
والثاني من أسباب الخلاف: اتباع الهوى، ولذلك سمِّي أهلُ البدع أهل الأهواء؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهوءاهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح، ومن مال إلى الفلاسفة، وغيرهم، ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم، أو طلباً للرياسة، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم، ويتأول عليهم فيما أرادوا حسبما ذكره العلماء ونقله من مصاحبي السلاطين، فالأولون ردُّوا كثيراً من الأحاديث الصحيحة بعقولهم، وأساؤوا الظن بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحسَّنوا ظنَّهم بآرائهم الفاسدة، حتى ردوا كثيراً من أمور الآخرة وأحوالها، من الصراط، والميزان، وحشر الأجساد، والنعيم، والعذاب الجسمي، وأنكروا رؤية الباري، وأشباه ذلك، بل صيَّروا العقل شارعاً جاء الشرع أو لا، بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل إلى غير ذلك من الشناعات.
والثالث من أسباب الخلاف: التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت، أو كانت مخالفة للحق،
وهو اتباع ما كان عليه الآباء، والأشياخ، وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم؛ فإن الله ذم ذلك في كتابه بقوله: (إنا وجدنا آباءنا على أمة) الآية، ثم قال: (قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) ، وقوله: هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون) فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء، فقالوا: (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) وهو مقتضى الحديث المتقدم أيضا في قوله: (اتخذ الناس رؤساء جهالاً) إلى آخره، فإنه يشير إلى الاستنان بالرجال كيف كان.
" الاعتصام " (١ / ٤٢١ – ٤٢٣) باختصار.
وعليه: فإنه من المستحيل اتفاق المسلمين واجتماعهم على غير التوحيد والعقيدة، وفي الإسلام مظاهر اجتماع واتفاق لا توجد في غيره، كالقبلة الواحدة، والقرآن، ومناسك الحج، وغيرها، فنرجو أن يتوحد المسلمون ويجتمعوا على اعتقاد واحد، ومنهج واحد في فهم القرآن والسنَّة، وما يحصل من خلافٍ محتمل بعد هذا فإن أمره يسير.
سئل الشيخ صالح بن فوزان الفوزان – حفظه الله-
ما هي المسائل التي يجوز الاختلاف فيها؟ وتلك التي ينبغي التّوقُّفُ عن الخلاف فيها؟ وما واجب المسلمين تُجاه دينهم؟ .
فأجاب:
الاختلاف على قسمين:
القسم الأول: الاختلاف في مسائل العقيدة، وهذا لا يجوز؛ لأنّ الواجب على المسلمين اعتقاد ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، وعدم التّدخُّل في ذلك بعقولهم واجتهاداتهم؛ لأنّ العقيدة توقيفيّة، ولا مجال للاجتهاد والاختلاف فيها.
القسم الثاني: اختلاف في المسائل الفقهيَّة المستنبطة من النُّصوص، وهذا لابدّ منه؛ لأنّ مدارك الناس تختلف، ولكن يجب الأخذ بما ترجّح بالدّليل من أقوالهم، وهذا هو سبيل الخروج من هذا الخلاف.
ويجب على المسلم أن يهتمَّ بأمور دينه، ويحافظ على أداء ما أوجب الله عليه، ويترك ما حرَّمَ الله عليه، وأن يتحلَّى بالأخلاق الفاضلة مع إخوانه، وأن يصدُقَ في معاملته، ويحفظ أمانته، ويكون قدوةً صالحةً لغيره.
ويجب أن يتربَّوا على التّمسّك بالدّين والأخلاق الفاضلة، وأن يبتعدوا عن الأخلاق الرّذيلة وقرناء السُّوء، وأن يهتمُّوا بما ينفعهم في دينهم ودُنياه، وأن يكونوا قوَّة للإسلام والمسلمين. " المنتقى من فتاوى الفوزان " (١ / ٤٠٧، ٤٠٨، السؤال رقم ٢٤١) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب