للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

اعترف رجل أنه زنى بها وعند زوجها قرائن على ذلك فهل يطلقها؟

[السُّؤَالُ]

ـ[أنا متزوج منذ ١٣ سنة، ولي بنتان: ١١ سنة، و ٩ سنوات، قبل - عدة أسابيع - أكتشف بالصدفة حدوث مكالمات تليفونية طويلة المدة، ومجهولة، على هاتف المنزل، ثم علمت فيما بعد أن مع زوجتي هاتفاً محمولاً سرّاً، والأخطر هو خروجها من المنزل بدون علمي، وعندما أواجهها إما أن تنكر، أو ترد بتبريرات واهية، اشتكيت لأهلها دون جدوى؛ نظراً لإصرارها الدائم على نفي حدوث أي خطأ؛ وعدم وجود شخص قوي محايد، أخيراً تلقيت عدة مكالمات تليفونية على محمولي تفيد أنها سرقت مبلغاً كبيراً من المال من عشيقها، ثم قابلني هذا الشخص، وادعى أنه زنى بها مرات عديدة داخل منزلي! ووصف لي البيت بدقة، وأدق الأسرار الزوجية التي لا يعرفها ألا أنا وهي - أسرار عني، وعن البنات، وعن أسرتها، وفَرش حجرة النوم , وكذلك رقم هاتفها المحمول الذي لم أكن أعلم أنها تمتلكه أصلاً، وتفاصيل خلافاتنا الزوجية، وصفات كاذبة عني، وعن أهلي، ثم ادعى أنها في إحدى المرات سرقت منه المال بعد أن زنى بها، الأدهى أنها لا تزال على الإنكار دون إبداء أي تفسير عن تلك المعلومات السليمة والمفصلة!! وترفض الطلاق على اعتبار أنها ضحية مكيدة من هذا الرجل اللعين!! أحيانا تُظهر التوبة، وقراءة القرآن والصلاة، أمامي، وأحيانا أخرى تنهال عليَّ بالشتائم لأتفه الأسباب!! المشاكل بيننا تتفاقم، واستمرار الحياة الزوجية مستحيل، البنات في حالة انهيار كامل، حالتي النفسية سيئة جدّاً، وكذلك مستوى أدائي في العمل الآن , وبعد أدائي صلاة الاستخارة عشرات المرات لا أريد الإبقاء عليها كزوجة، وعليه: ليس أمامي إلا التفاهم معها على الطلاق بالتراضي، ولكن شروطها المادية مبالغ فيها جدّاً؛ على اعتبار أنها بريئة، وترفض الطلاق، وطلباتها كالآتي: ٣٠٠٠٠ نفقة متعة، وحسبتها كالآتي: (٥٠٠ شهريّاً - ١٢ شهر، ٥ سنوات -) + نفقة عدة ٣٠٠٠ (١٠٠٠، ٣ شهور) + ٥٠٠٠ مؤخر صداق + ١٢٠٠ نفقة شهرية للبنات!! + كل محتويات شقة الزوجية + مصاريف العلاج والدراسة والكسوة + شقة تمليك جديدة لحضانة البنات!! . الأسئلة: ١. هل من حق تلك المرأة أن تطلب مثل تلك الطلبات، خصوصاً نفقة المتعة؟ ٢. هل من حقي طلب اللعان بيننا؟ . ٣. هل من حقي طردها من شقة الزوجية الحاليَّة أو نقل مسكن الزوجية إلى مكان آخر؟ . ٤. فما هو رأي الدين والقانون فيما حدث، وبماذا تنصحوني أن أفعل؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

من الواضح أن الحياة مع تلك الزوجة أضحت مستحيلة الاستمرار، وسواء صدقت أم كذبت فإن القرائن التي تملكها كافية لتجعلك تطلقها، وتبحث عن امرأة صالحة مطيعة، ولا ندري كيف تطيب لك حياة لدقيقة واحدة معها وأنت قد علمت بتلك المكالمات، والسرقة، والخروج من البيت دون إذنك، وكل ذلك قد يتحمله المرء، لكن أن يأتيك من يزعم أنه زنى بزوجتك! ويصف لك البيت وغرفة النوم بدقة! : فهذا ما لا يتحمله المرء، ولأن يموت أهون عليه من سماع هذا لو كان كذباً، فكيف وقد اجتمعت ـ مع ذلك ـ قرائن كثيرة على صدقه؟!! .

ثانياً:

جاءت الشرائع السماوية بما يحفظ الأعراض من انتهاكها، ومن قذفها واتهامها بالباطل، وقد رتبت الشريعة المطهرة الحد على من قذف امرأة أو رجلاً، واتهم أحدهما بارتكاب فاحشة الزنا، وشرع الله تعالى أن يُجلد القاذف ثمانون جلدة، وأن لا تُقبل شهادته، وهو من الفاسقين، إلا أن يشهد أربعة واقعة الزنى، ويرون الميل في المكحلة.

وقد استثني الزوج من هذا الحكم، وذلك أن تقوم أيمان أربعة يحلفها أنها زانية مقام الشهود الأربعة، فإن حلف تلك الأيمان فإنها تستحق الرجم، ويمكنها أن تدفع الرجم عنها بأربعة أيمان تحلفها أنه من الكاذبين، وهنا يفرَّق بينهما، ولا يلتقيان بعدها، وهذا هو ما يسمى " اللعان "، ويكون بالشهادة عليها بالزنى، وبنفي الحمل أن يكون منه، وبنفي الولد الذي تنجبه.

قال ابن قدامة - رحمه الله -:

إذا قذف زوجته المحصنة: وجب عليه الحد , وحُكم بفسقه , وردِّ شهادته , إلا أن يأتي ببيِّنة أو يلاعن , فإن لم يأت بأربعة شهداء , أو امتنع من اللعان: لزمه ذلك كله، وبهذا قال مالك، والشافعي ...

ولنا: قول الله تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ، وهذا عام في الزوج وغيره , وإنما خص الزوج بأن أقام لعانه مقام الشهادة في نفي الحد والفسق ورد الشهادة عنه.

وأيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البيِّنة وإِلَاّ حدٌّ في ظَهْركِ) ، وقوله لما لاعن: " عَذابُ الدنْيا أَهْونُ مِنْ عَذابِ الآخِرَة) ؛ ولأنه قاذف يلزمه الحد لو أكذب نفسه , فلزمه إذا لم يأت بالبينة المشروعة، كالأجنبي.

" المغني " (٩ / ٣٠) .

ثالثاً:

وزنى الزوجة لا يوجب فسخ النكاح، ولا يُسقط مهرها، وقد فرَّقت الشريعة بين ابتداء نكاح الزانية فلم يكن جائزاً، وبين دوام النكاح فلم يكن محرَّماً عليه إمساكها، فإن تابت وحسنت توبتها: فخير تقدمه لنفسها، وإن أصرَّت على زناها: فلا خير فيها، ويحل له أن يطلقها، كما يحل له أن يضيق عليها لتفتدي نفسها منه.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) النساء/١٩.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:

الزوج له أن يستوفي حد الفاحشة من البغي، الظالمة له، المعتدية عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق الرجل على امرأته (وأن لا يوطئن فرشكم من تكرهونه) فلهذا كان له أن يقذفها ابتداء، وقذفها إما مباح له، وأما واجب عليه إذا احتاج إليه لنفي النسب، ويضطرها بذلك إلى أحد أمرين: إما أن تعترف، فيقام عليها الحد، فيكون قد استوفى حقه، وتطهرت هي أيضاً من الجزاء لها، والنكال في الآخرة بما حصل، وإما أن تبوء بغضب الله عليها، وعقابه في الآخرة الذي هو أعظم من عقاب الدنيا؛ فإن الزوج مظلوم معها، والمظلوم له استيفاء حقه إما في الدنيا وإما في الآخرة، قال الله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) بخلاف غير الزوج، فإنه ليس له حق الافتراش، فليس له قذفها، ولا أن يلاعن إذا قذفها؛ لأنه غير محتاج إلى ذلك مثل الزوج، ولا هو مظلوم في فراشها، لكن يحصل بالفاحشة من ظلم غير الزوج ما لا يحتاج إلى اللعان؛ فإن في الفاحشة إلحاق عار بالأهل، والعار يحصل بمقدمات الفاحشة.

فإذا لم تكن الفاحشة معلومة بإقرار، ولا بينة: كان عقوبة ما ظهر منها كافياً في استيفاء الحق، مثل الخلوة، والنظر، ونحو ذلك من الأسباب التي نهى الله عنها، وهذا من محاسن الشريعة.

" قاعدة في المحبة " (ص ٢٠٢، ٢٠٣) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في عدم سقوط المهر -:

ولا يسقط المهر بمجرد زناها، كما دلَّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم للملاعن لما قال " مالي، قال: لا، مال لك، عندها إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللتَ من فرجها، وإن كنت كاذباً عليها فهو أبعد لك "؛ لأنها إذا زنت قد تتوب، لكن زناها يبيح له إعضالها، حتى تفتدي منه نفسها إن اختارت فراقه أو تتوب.

" مجموع الفتاوى " (١٥ / ٣٢٠) .

وانظر جوابي السؤالين: (٨٣٦١٣) و (٤٢٥٣٢) .

رابعاً:

وعليه: فقد علمتَ أنه يجوز لك أن تلاعنها لما عندك من قرائن على وقوعها في الزنا، وعليك تحمل آثار أيمانك، وإن أردت السلامة فطلقها من غير ملاعنة، وإن لاعنتها: فلها مهرها، وليس لها نفقة ولا سكنى إلا أن تكون حاملاً ولم ينف حملها.

قال ابن القيم – رحمه الله -:

لا نفقة لها عليه، ولا سكنى، كما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا موافق لحكمه في المبتوتة التي لا رجعة لزوجها عليها، وأنه موافِق لكتاب الله، لا مخالف له، بل سقوط النفقة والسكنى للملاعَنة أولى من سقوطها للمبتوتة؛ لأن المبتوتة له سبيل إلى أن ينكحها في عدتها، وهذه لا سبيل له إلى نكاحها، لا في العدة، ولا بعدها، فلا وجه أصلاً لوجوب نفقتها وسكناها وقد انقطعت العصمة انقطاعاً كليّاً.

فأقضيته صلى الله عليه وسلم يوافق بعضُها بعضاً، وكلها توافق كتاب الله والميزان الذي أنزله ليقوم الناس بالقسط، وهو القياس الصحيح كما ستقر عينك إن شاء الله تعالى بالوقوف عليه عن قريب.

" زاد المعاد " (٥ / ٣٥٦) .

وقال ابن قدامة – رحمه الله -:

فأما الملاعَنة: فلا سكنى لها، ولا نفقة، إن كانت غير حامل؛ للخبر، وكذلك إن كانت حاملاً فنفى حملها وقلنا: إنه ينتفي عنه، أو قلنا: إنه ينتفي بزوال الفراش.

وإن قلنا لا ينتفي بنفيه، أو لم ينفه، وقلنا: إنه يلحقه نسبه: فلها السكنى، والنفقة؛ لأن ذلك للحمل، أو لها بسببه، وهو موجود، فأشبهت المطلقة البائن.

فإن نفى الحمل فأنفقت أمه، وسكنت من غير الزوج، وأرضعت، ثم استلحقه الملاعِن: لحقه، ولزمته النفقة، وأجرة المسكن، والرضاع؛ لأنها فعلت ذلك على أنه لا أب له، فإذا ثبت له أب: لزمه ذلك، ورجع به عليه.

" المغني " (٩ / ٢٩١) .

وبه تعلم أن ما تطلبه زوجتك من نفقة وسكنى أنه لا يلزمك منهما شيء إن لاعنتها، إلا أن تكون حاملاً، فتنفق عليها من أجل حملها، وإن طلقتَها طلاقاً باتّاً: فليس لها إلا مهرها، ولا يلزمك نفقتها، ولا سكناها، إلا أن تكون حاملاً، أو يكون معها أولادك، فتنفق عليهم، وعلى ما في بطنها، لا عليها.

قال تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) الطلاق/ من الآية ٦.

خامساً:

وأما " متعة الطلاق " - وهو مال أو متاع يُعطى للمطلقة بعد طلاقها -: فقد اختلف أهل العلم في المطلقة التي تستحقه، فمنهم من ذهب إلى العموم فقال: تعطى المتعة لكل مطلقة وجوباً، قبل الدخول أو بعده، سمي المهر أم لم يسمَّ.

وذهب آخرون إلى أنه في المطلقة قبل الدخول ممن لم يسمَّ لها مهر، وفي قول ثالث: أنها للمطلقة قبل الدخول، ولو سمي لها مهر.

والأخذ بالقول الأول هو الأحوط، وقد رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن المعاصرين: الشيخ الشنقيطي، والشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمهم الله -، لكن الشيخ العثيمين قيَّد الوجوب فيما لو طالت مدة زواجهما.

وهذه المتعة المفروضة لا ينبغي أن تكون مرهقة للمطلِّق، بل على قدر وسعه وطاقته، ولذا لم يأت لها تحديد في الشرع.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -:

والتحقيق أن قدر المتعة لا تحديد فيه شرعاً لقوله تعالى: (عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ) البقرة/٢٣٦، فإن توافقا على قدر معين: فالأمر واضح، وإن اختلفا: فالحاكم يجتهد في تحقيق المناط، فيعين القدر على ضوء قوله تعالى: (عَلَى الموسع قَدَرُهُ) الآية البقرة/٢٣٦، هذا هو الظاهر، وظاهر قوله: (ومَتِّعُوهُنَّ) البقرة/٢٣٦ وقوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ) البقرة/٢٤١ يقتضي وجوب المتعة في الجملة، خلافاً لمالك ومن وافقه في عدم وجوب المتعة أصلاً.

" أضواء البيان " (١ / ١٩٢) .

وقد ذكرنا لك من قبل أن زناها يبيح لك أن تعضلها وتضيق عليها حتى تفتدي منك، وتختار الطلاق، مقابل التنازل عن حقوقها المادية أو بعضها، وبإمكانك أن تهددها بإطلاع أهلها، أو من تهابه منهم، على ما حدث. فإن أبت الافتداء والتنازل عن حقوقها المالية بعد ذلك كله، فالذي نختاره لك أن تطلق هذه المرأة، مهما كانت تكلفة طلاقها، لكن لا تمكنها من الحصول على مال زائد عما يحكم لها به، إن وصلت المسألة بينكما للقضاء، ولك أن تحتال على ذلك، أعني على منعها من ظلمك، وأخذ أكثر من المهر المسمى لها (مؤخر الصداق) ، والحقوق الثابتة لها شرعا، على ما أشرنا إليه من قبل، وليس لك أن تحتال على إسقاط حقها.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>