جهل من يزعم أن الحج من مظاهر الوثنية
[السُّؤَالُ]
ـ[شيخنا الحبيب! والله إنى أحبك فى الله! نريد بعض الردود على من تتهم زيارتنا للكعبة المشرفة بأنه من الوثنية، كنوال سعداوي، وماذا تمثل الكعبة بالنسبة للمسلمين، وما يمثل الحج والعمرة كذلك للمسلمين؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
" الوثنية " دين أرضي ينتسب إلى الأوثان، وهي الأصنام والأنصاب والصور، وأخص أوصاف هذه النسبة هو التعلق بالأوثان بالخوف والرجاء والتذلل والعبادة، مع قدر من المحبة والتعظيم، وقد يصاحب ذلك نسبة القوة الذاتية إليها باعتقاد النفع والضر فيها، وقد لا يكون ذلك إلا عن اعتقادها وسائط إلى القوة الإلهية المطلقة.
أما المسلم الموحِّد فهو الذي لا يتوجه بمعاني العبودية القلبية أو العملية إلا لله تعالى، ولا يعتبر المكان والزمان إلا ظروفا للقيام بمظاهر العبودية، فلا ينالها شيء من المعاني التي تقوم في قلبه تعبدا وتذللا لله عز وجل.
ومن لم يفرق بين هذين المفهومين: " التوحيد "، و " الوثنية " لم يفهم شيئا من تاريخ الأديان وفواصل العقائد التي افترق عليها الناس، ولم يوثق بشيء من فكره، ونادى على نفسه بقلة الفهم والاطلاع.
يقول الشيخ محمد رشيد رضا في "مجلة المنار" (١٦/٦٧٥) ، جوابا على سؤال طويل يستشكل ما ذكره السائل عن بعضهم: أنَّ شعائر الحج من مظاهر الوثنية، فقال:
" ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى والملاحدة، الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل قائليه من جهة، وسوء نيتهم في الغالب من جهة أخرى.
ومن عرف معنى العبادة يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود، ولا الكعبة، ولكن يعبدون الله تعالى وحده باتباع ما شرعه فيهما، بل كان من تكريم الله تعالى لبيته أن صرف مشركي العرب وغيرهم من الوثنيين والكتابيين الذين كانوا يعظمونه قبل الإسلام عن عبادته،
وقد وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه، ولم يعبدوه.
ذلك أن عبادة الشيء عبارة عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن يعبده، أو دفع الضرر عنه، والخوف من ضره لمن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه، سواء كانت هذه السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود، فيستقل بالنفع والضرر، أو كانت غير ذاتية له بأن يُعْتَقَد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له السلطة الذاتية.
ولا يوجد أحد من المسلمين يعتقد أن الحجر الأسود ينفع أو يضر بسلطة ذاتية له، ولا أن سلطته تقريب من يعبد ويلجأ إليه إلى الله تعالى، ولا كانت العرب في الجاهلية تعتقد ذلك وتقوله في الحجر كما تقول في أصنامها: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) الزمر/٣، (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) يونس/١٨
وإنما عقيدة المسلمين في الحجر هي ما صرَّح به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تقبيله، قال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . رواه الجماعة كلهم أحمد والشيخان وأصحاب السنن.
وقد بيَّنَّا في المنار من قبل أن هذا القول روي أيضا عن أبي بكر رضي الله عنه، وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أثر عمر كان العمدة في هذا الباب للاتفاق على صحة سنده.
قال الطبري: إنما قال عمر ذلك ... لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر الأسود من باب تعظيم الأحجار، كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا لأن الحجر يضر وينفع بذاته. اهـ.
بقي أن يقال: فما هي حكمة جعل ما ذكر من العبادة؟ وهل يصح ما قيل من أن النبي صلى الله عليه وسلم تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفًا للمشركين، واستمالة لهم إلى
التوحيد؟
والجواب: أن الحجر ليس من آثار الشرك، ولا من وضع المشركين، وإنما هو من وضع إمام الموحدين إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، جعله في بيت الله ليكون مبدأ للطواف بالكعبة يعرف بمجرد النظر إليها، فيكون الطواف بنظام لا يضطرب فيه الطائفون، وبهذا صار من شعائر الله، يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة لجعلها بيتًا لله تعالى، وإن كانت مبنية بالحجارة، فالعبرة بروح العبادة: النية والقصد، وبصورتها الامتثال لأمر الشارع، واتباع ما ورد بلا زيادة ولا نقصان، ولهذا لا تُقَبَّلُ جميع أركان الكعبة عند جمهور السلف، وإن قال به وبتقبيل المصحف وغيره من الشعائر الشريفة بعض من يرى القياس في الأمور التعبدية.
وتعظيم الشعائر والآثار الدينية والدنيوية، بغير قصد العبادة معروف في جميع الأمم، لا يستنكره الموحدون ولا المشركون ولا المعطلون، وأشد الناس عناية به الإفرنج، فقد بنوا لآثار عظماء الملوك والفاتحين والعلماء العاملين الهياكل العظيمة، ونصبوا لهم التماثيل الجميلة، وهم لا يعبدون شيئا منها، فلماذا نهتم بكل ما يلفظ به كل قسيس أو سياسي يريد تنفير المسلمين من دينهم إذا موَّه علينا في شأن تعظيم الحجر الأسود، فزعم أنه من آثار الوثنية، ونحن نعلم أنه أقدم أثر تاريخي ديني لأقدم إمام موحد داع إلى الله من النبيين المرسلين الذي عُرِفَ شيء صحيح من تاريخهم، وهو إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي أجمع على تعظيمه مع المسلمين اليهود والنصارى؟
ولعمري لو أن ملوك الإفرنج وعلماءهم أمكنهم أن يشتروا هذا الحجر العظيم لتغالوا في ثمنه تغاليًا لا يتغالون مثله في شيء آخر في الأرض، ولوضعوه في أشرف مكان من هياكل التحف والآثار القديمة، ولحج وفودهم إلى رؤيته، وتمنى الملايين منهم لو تيسر لهم لمسه واستلامه، وناهيك بمن يعلم منهم تاريخه وكونه من وضع إبراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام، وإنهم ليتغالون فيما لا شأن له من آثار الملوك أو الصناع.
وجملة القول: أن مناسك الحج من شريعة إبراهيم، وقد أبطل الإسلام كل ما ابتدعته الجاهلية فيها من وثنيتها وقبيح عملها، كطوافهم بالبيت عراة، وإن الكعبة من بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما هو ثابت عند العرب بالإجماع المتواتر بينهم، وكانوا يعظمونها هم والأمم المجاورة لهم، بل والبعيدة عنهم كالهنود، ولما كانت الكعبة قد جدد بناؤها قبل الإسلام وبعده لم يبق فيها حجر يعلم باليقين أنه من وضع إبراهيم إلا الحجر الأسود؛ لامتيازه بلونه وبكونه مبدأ المطاف، كان هو الأثر الخاص المذكر بنشأة الإسلام الأولى في ضمن الكعبة المذكرة بذلك بوضعها وموضعها وسائر خصائصها، زادها الله حفظًا وشرفًا.
وقد علم بهذا أن الحجر له مزية تاريخية دينية، ولنا مع علمنا بهذا أن نقول:
إن لله تعالى أن يخصص ما شاء من الأجسام والأمكنة والأزمنة لروابط العبادة والشعائر، فلا فرق بين تخصيص الحجر الأسود بما خصصه وبين تخصيص البيت الحرام والمشعر الحرام وشهر رمضان والأشهر الحرم، ومبنى العبادات على الاتباع لا على الرأي.
إذا وعيت ما تقدم كان نورًا بين يديك تبصر به حكم سائر مناسك الحج: أعني بها مما تَعَبَّدَنا الله تعالى بها، لتغذية إيماننا بالطاعة والامتثال، سواء عرفنا سبب كل عمل منها وحكمته، أم لا، وأنها إحياء لدين إبراهيم أبي الأنبياء وإمام الموحدين المخلصين، وتذكير بنشأة الإسلام ومعاهده الأولى، وإن لاستحضار ذلك لتأثيرا عظيما في تغذية الإيمان وتقوية الشعور به، والثقة بأنه دين الله الخالص الذي لا يقبل غيره.
فإن جهلنا سبب شرع بعض تلك الأعمال أو حكمتها لا يضرنا ذلك، ولا يثنينا عن إقامتها كما إذا ثبت لنا نفع دواء من الأدوية مركب من عدة أجزاء، وجهلنا سبب كون بعضها أكثر من بعض، فإن ذلك لا يثنينا عن استعمال ذلك الدواء والانتفاع به، ولا يدعونا إلى التوقف وترك استعماله إلى أن نتعلم الطب ونعرف حكمة أوزان تلك الأجزاء ومقاديرها.
أبسط ما يتبادر إلى الذهن من منشإ هذه العبادة – رمي الجمار - أن هذه المواضع التي تسمى الجمرات كانت من معاهد إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام، فشرع لنا أن نقف عند كل واحدة منها، نكبر الله سبع تكبيرات، ترمى عند كل تكبيرة حصاة صغيرة بين أصابعنا نعد بها التكبير،
روى الطبراني والحاكم والبيهقي عن ابن عباس: (لما أتى خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة، فرماه بسبعة حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض) ثم ذكر الجمرة الثالثة كذلك. – [ورواه ابن خزيمة في صحيحه (٢/١٠٠) وصححه الحاكم في "المستدرك"، والألباني في "صحيح الترغيب" (١١٥٦) وقد روي مرفوعا وموقوفا]
فإذا صح أن إبليس عرض لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في أثناء أداء مناسكه بظهور ذاته أو مثاله، أو بمجرد التصدي للوسوسة والشغل عن ذكر الله تعالى، فلا غرابة في قذفه ورجمه كما يطرد الكلب، فمن المعروف في الأخلاق والطباع أن يأتي الإنسان بعمل عضوي يظهر به كراهته لما يعرض له، حتى من الخواطر القبيحة، ودفعه عنه وبراءته منه، فأخذ الحصيات ورميها مع تكبير الله تعالى من هذا القبيل، وإن حركة اليد المشيرة إلى البعد لتفيد في دفع الخواطر الشاغلة للقلب..
والرجم بالحجارة بقصد الدلالة على السخط والتبري أو الإهانة معهود من الناس، وله شواهد عند الأمم، كرجم بني إسرائيل مع يشوع (النبي يوشع عليه السلام) لمجان بن زراح وأهله وماله من ناطق وصامت (كما في٧: ٢٤ و٢٥) من سفر يشوع، وكرجم النصارى لشجرة التين التي لعنها المسيح، ورجم العرب في الجاهلية لقبر أبي رغال في المغمس بين مكة والطائف؛ لأنه كان يقود جيش أبرهة الحبشي إلى مكة لأجل هدم الكعبة حرسها الله تعالى.
والعمدة في رمي الجمار ما تقدم من قصد التعبد لله تعالى وحده، بما لا حظ للنفس فيه، اتباعًا لإبراهيم أقدم رسل الله الذين بقيت آثارهم في الأرض، ومحمد خاتم رسل الله ومكمل دينه ومتممه الذي حفظ دينه كله في الأرض، صلى الله عليهم أجمعين.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بيان أسرار الحج من "الإحياء":
وأما رمي الجمار فليقصد به الانقياد للأمر إظهارًا للرق والعبودية، وانتهاضًا لمجرد الامتثال، من غير حظ للعقل والنفس في ذلك؛ ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة، أو يفتنه بمعصية، فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردًا له وقطعًا لأمله.
فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان، فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان، وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي، فبذلك ترغم أنف الشيطان. واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره، إذا لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيمًا له بمجرد الأمر، من غير حظ للنفس والعقل فيه. اهـ " انتهى النقل من " مجلة المنار "
وانظر في "أضواء البيان" للأمين الشنقيطي (سورة الحج/٢٧) مبحثين في حكمة الرمي والرمل في الحج.
والله أعلم.
وقد سبق الجواب عن الشبهة الواردة في السؤال على لسان بعض الجهلة، وذلك في جواب السؤال رقم (٨٢٣٤٩) .
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب