للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يحزن أهل الجنة على أقربائهم وأحبابهم وهم يُعذبون في النار؟

[السُّؤَالُ]

ـ[نعتقد أن ساكني الجنة لن يقلقوا على أي شيء، لكن لو أن شخصاً من عائلته، أو محبوبه دخل النار: كيف يمكنه أن يكون سعيداً مع علمه أنهم يعاقبون؟]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

كتب الله لأهل الجنة السعادة، والفرح، والسرور، فهم يتقلبون في نعَم الله تعالى، ونعيمه، بفضلٍ منه ورحمة، وليس في الجنة حزن، ولا هم، ولا غم، لأهلها، بل هم في نعيم دائم، وفضل عميم، من ربهم الرحمن الرحيم.

قال تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة/ ١١٢.

وقال تعالى: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ) التوبة/ ٢١.

ومما لا شك فيه أن بعض من يدخل الجنة سيكون له أصحاب، وأحباب، وأقرباء، وأهلون، من أهل النَّار، فهل سينغص ذلك عليه سعادته، ويكدِّر عليه صفو نعيمه؟ الجواب: كلا، لن يكون ذلك البتة، ولم نجد شيئاً في الشرع – على حد علمنا – منصوصاً عليه في ذات المسألة، لكننا يمكننا الجزم بما ذكرناه، وأن لذلك أسباباً كثيرة، منها:

١. علم أهل الجنة بالحكم الشرعي.

٢. تسليمهم بالحكمة الربانية.

٣. ونعيمهم وهناؤهم العظيم ينسيهم ما فيه غيرهم من المستحقين للعذاب.

ولنقف مع ما يؤيد ذلك مع موقفين اثنين:

الأول: لإبراهيم عليه السلام مع أبيه الكافر، يوم القيامة.

والثانية: لرجل من أهل الجنَّة له صديق رآه من الجنَّة وهو في وسط جهنَّم.

أما الموقف الأول: فإن إبراهيم عليه السلام كان قد دعا ربَّه تعالى أن لا يخزيه يوم البعث، وعندما يكون الحكم على أبيه الخلود في جهنَّم: يطلب إبراهيم عليه السلام من ربه تعالى أن يحقق له دعاءه في أبيه، فيُؤتى بأبيه أمامه، فيمسخه الله ضبعاً، فيؤخذ بقوائمه، فيُلقى في نار جهنَّم، ويُخبر إبراهيم عليه السلام بحكم الله تعالى في عدم دخول الكفار الجنَّة، فيسلِّم إبراهيم عليه السلام للحكم، والحكمة.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَعَلَى وَجْه آزَرَ قَتَرَة وَغَبَرَة، فَيَقُول لَهُ إِبْرَاهِيم: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُول أَبُوهُ: فَالْيَوْم لَا أَعْصِيك، فَيَقُول إِبْرَاهِيم: يَا رَبِّ إِنَّك وَعَدْتنِي أَنْ لَا تُخْزيَني يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيّ خِزْي أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَد، فَيَقُول اللَّه: إِنِّي حَرَّمْت الْجَنَّة عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَال: يَا إِبْرَاهِيم مَا تَحْتَ رِجْلَيْك؟ اُنْظُرْ، فَيَنْظُر، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخ، فَيُؤْخَذ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّار. رواه البخاري (٣٣٥٠) .

الذِّيخ: ذَكَر الضِّبَاع، وَقِيلَ: لَا يُقَال لَهُ ذِيخ إِلَّا إِذَا كَانَ كَثِير الشَّعْر.

وقيل في مسخ أبيه بضبع ملطّخ أمام إبراهيم: حتى لا يكون لإبراهيم عليه السلام تعلُّق بصورة أبيه الحقيقية وهو في نار جهنم، وقيل: هو استجابة لدعائه، وقيل غير ذلك، وبكل حال: فإن هذا يصلح دليلاً على تسليم أهل الجنَّة بما قدَّره الله تعالى على المستحقين للخلود في نار جهنَّم.

قال الحافظُ ابنُ حجرٍ - في الحكمةِ من مسخِ آزر على صفةِ الذيخِ -:

قيل: الحكمة في مسخه: لتنفر نفس إبراهيم منه؛ ولئلا يبقى في النار على صورته، فيكون فيه غضاضة على إبراهيم.

وقيل: الحكمة في مسخه ضبعاً أن الضبع من أحمق الحيوان، وآزر كان من أحمق البشر؛ لأنه بعد أن ظهر له من ولده من الآيات البينات أصرَّ على الكفر حتى مات، واقتصر في مسخه على هذا الحيوان: لأنه وسط في التشويه بالنسبة إلى ما دونه، كالكلب، والخنزير، وإلى ما فوقه، كالأسد مثلاً؛ ولأن إبراهيم بالغ في الخضوع له، وخفض الجناح، فأبى، واستكبر، وأصر على الكفر، فعومل بصفة الذل يوم القيامة؛ ولأن للضبع عوجا فأشير إلى أن آزر لم يستقم فيؤمن بل استمر على عوجه في الدين.

" فتح الباري " (٨ / ٥٠٠) .

وأما الموقف الثاني: فإن فيه صورة تكاد تكون أبلغ من الأولى، ومطابقة للسؤال، وهي إخبار من الله تعالى عن مؤمن من أهل الجنَّة يمكنه ربه من رؤية صديق له في وسط النَّار، فلا يصيبه الحزن، ولا الكدر، بل يشكر ربه المتفضل عليه بالهداية، والإنجاء من الكفر والنار، ويلتفت لنعيمه الذي هو، ويشتغل به.

قال تعالى: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ. قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ. قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ. قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) الصافات/ ٥٠ – ٦١.

قال ابن القيم – رحمه الله -:

ثم يقول المؤمن لإخوانه في الجنة: هل أنتم مطلعون في النار لننظر منزلة قريني هذا، وما صار إليه، هذا أظهر الأقوال، وفيها قولان آخران: أحدهما: أن الملائكة تقول لهؤلاء المتذاكرين الذين يحدِّث بعضهم بعضاً: هل أنتم مطلعون، رواه عطاء عن ابن عباس، والثاني: أنه مِن قوله الله عز وجل لأهل الجنة، يقول لهم: هل أنتم مطلعون؟ .

والصحيح: القول الأول، وأن هذا قول المؤمن لأصحابه، ومحادثيه، والسياق كله، والإخبار عنه، وعن حال قرينه.

" حادي الأرواح " (ص ١٧٩) .

قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -:

(قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) يقول المؤمن مخاطبا للكافر: والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك. (وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي: ولولا فضل الله عليَّ: لكنت مثلك في سواء الجحيم حيث أنت، محضر معك في العذاب، ولكنه تفضل عليَّ، ورحمني، فهداني للإيمان، وأرشدني إلى توحيده (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) الأعراف/ ٤٣.

وقوله: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) هذا من كلام المؤمن مغبطاً نفسه بما أعطاه الله من الخلد في الجنة، والإقامة في دار الكرامة، لا موت فيها، ولا عذاب؛ ولهذا قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .

" تفسير ابن كثير " (٧ / ١٦) .

هذا الذي يمكننا قوله في هذه المسألة، وأن المؤمن يعلم حكم الله في الكفار، ويسلم لحكمة الله تعالى، وينسيه ما هو فيه من نعيم، ما يكون عليه غيره من أهله وأحبابه في النار؛ رحمة، وفضلاً من ربه عز وجل.

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>